عدو الإنجاز
25 جمادى الأول 1438
د. عامر الهوشان

هو عدو الإنجاز بحق لأنه بعيد كل البعد عن العمل الذي هو في الحقيقة قوام الإنجاز وعموده الفقري , بالإضافة لكونه لا يتعامل مع اللحظة التي يعيش فيها الإنسان , والتي هي وعاء الإنجاز و رأسمال العاقل الفطن وفرصته الذهبية لإحداث التغيير المنشود في حياته ....
بل يتعامل مع وهم الزمن القادم و سراب المستقبل الذي لا يأتي غالبا .

 

 

إنه مرض التأجيل وآفة التسويف الذي يغري الكثير من أبناء الأمة بوهم الغد وخداع ما بعد غد , ويبعدهم عن حاضرهم الذي يعيشون فيه بدغدغة مشاعرهم بأماني سوف و أحلام سأعمل وسأنجز وس..... .

 

 

كثيرة هي الأسباب التي تقف وراء وقوع كثير من الناس في فخ تأجيل عمل ما يمكن أن يقوموا به الآن أو ربما يجب عليهم أن يفعلوه في الحال , لعل أبرزها الخوف من الفشل والخشية من عدم النجاح , والذي لا يمكن أن يُواجه ويُقاوم إلا بخوض غمار تجربة البدء بالعمل دون استباق النتائج او توقع الاحتمالات السلبية , والذي لا يعني بحال من الأحوال استحالة الوقوع في بعض الأخطاء والانتكاسات أثناء تنفيذ العمل , فتلك الأخطاء ببساطة ليست إلا درجة من درجات الوصول إلى النجاح النهائي , ولا تعتبر بأي شكل من الأشكال فشلا وهزيمة .

 

 

لقد أثبتت جميع الوقائع في تاريخ الناجحين أن المحاولات الفاشلة والتجارب غير الصائبة التي تمر بالإنسان العامل الذي يسعى للوصول إلى هدفه النهائي ومقصوده الأخير ما هي في الحقيقة إلا سلما للارتقاء و طريقا لا بد منه لبلوغ الغاية , مما يجعل ما مر به من إخفاقات و كبوات أثناء تنفيذ عمله يصطبغ بصبغة نجاحه النهائي ...... أما الذي لا يعمل فهو كما قال المثل "وحده الذي لا يخطئ" لأنه لم يقم بشيء أصلا !!

 

 

لقد احتاج توماس أديسون مخترع المصباح الكهربائي إلى 99 محاولة للوصول إلى إنجازه واختراعه الكبير , كما اعترف أينشتاين صاحب النظرية النسبية بأن محاولاته ونتائجه كانت تخطئ 99% , إلا أنه اعتبرها جميعا طريقه للنجاح .

 

 

وإذا كان الخوف من الفشل هو أحد أسباب لجوء كثير من الناس إلى التسويف , فإن ضعف الإرادة وغياب العزيمة والهمة , والركون إلى الكسل و الدعة والراحة , مع طول الأمل والغفلة عن قصر الحياة وسرعة انقضائها ونسيان الموت الذي قد يأتي بغتة كما ذكر الله تعالى في كتابه العزيز ..... هي في الحقيقة أسباب أخرى لآفة التسويف لا تقل أهمية عما سبق , فمن المعلوم أن وضع الإنسان لأهدافه ومخططاته موضع التنفيذ والعمل يحتاج إلى قوة في الإرادة وعلو في الهمة , كما يحتاج إلى جهد وتعب وبذل وسهر .

 

 

لم يكن اعتبار التسويف عدو الإنجاز و قرين الندم والحسرة والخسران ... من فراغ , فآثار تأجيل عمل اليوم إلى الغد - الذي يبدو أنه لا موعد له محدد عند المسوفين – لا تقتصر على الحياة الدنيا بتراكم الأعمال حتى تصبح كالجبال , وبالعيش في هامش الحياة , وعدم تذوق طعم ولذة النجاح , والندم على ما فات في وقت لا ينفع فيه الندم ..... فهي مقارنة بآثار التسويف الكارثية في كل ما يتعلق بالدار الآخرة والدين الحنيف أهون وأقل شأنا .

 

 

فإذا كان عقاب من يسوف أعماله الدنيوية هو ضياع بعض الفرص الذهبية وفقدان ثقة الناس به وبأقواله التي لا يترجمها لأعمال........فإن عاقبة من يؤخر المباردة إلى التوبة والإنابة إلى الله , و يتبع اهواء نفسه ووساوس الشيطان الذي يغريه بطول الحياة و يخدعه بأوهام تسويف الإقلاع عن الكبائر والإصرار على الصغائر إلى أجل غير مسمى ...... هي خسارة دخول الجنة والتمتع بنعيمها الخالد , وتعريض النفس لأهوال نار جهنم عياذا بالله .

 

 

لقد حذر ابن القيم من تأخير التوبة وتأجيلها فقال في فصل : "نبذا تتعلق بأحكام التوبة تشتد الحاجة إليها ولا يليق بالعبد جهلها" : أن المبادرة إلى التوبة من الذنب فرض على الفور ولا يجوز تأخيرها , فمتى أخرها عصى بالتأخير , فإذا تاب من الذنب بقي عليه توبة أخرى وهي توبته من تأخير التوبة , وقل أن تخطر هذه ببال التائب , بل عنده : أنه إذا تاب من الذنب لم يبق عليه شيء آخر , وقد بقي عليه التوبة من تأخير التوبة . مدارج السالكين 1/273

 

 

إن المطلع على كتاب الله تعالى يدرك سريعا كثرة الآيات التي تحث على المسارعة إلى الأعمال الصالحة وعدم تأجيلها أو تسويفها , قال تعالى : { وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } آل عمران/ 133 , وقال تعالى : { سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأرْضِ } الحديد/21 .

 

 

كما أنه يلحظ التحذير المتكرر من عاقبة التسويف والتأجيل في وقت لا ينفع فيه الندم فقال تعالى : { حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ؤ المؤمنون/99-100 , وقال تعالى : { وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ } المنافقون/10 , وقال تعالى : { وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ } الزمر/55

 

 

أما السنة النبوية فهي ذاخرة بالتحذير من التسويف و التحريض على المبادرة إلى الخيرات والمسارعة إلى الطاعات والأعمال الصالحة قبل تعذرها والاشتغال عنها بما يحدث من الفتن الشاغلة المتكاثرة المتراكمة كتراكم ظلام الليل المظلم , ومن ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسشلم قال : ( بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِى كَافِرًا أَوْ يُمْسِى مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا ) صحيح مسلم برقم/328 .

 

 

وفي حديث آخر : ( بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ سِتًّا طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا أَوِ الدُّخَانَ أَوِ الدَّجَّالَ أَوِ الدَّابَّةَ أَوْ خَاصَّةَ أَحَدِكُمْ أَوْ أَمْرَ الْعَامَّةِ ) صحيح مسلم برقم/7584

 

 

كما أن حديث حض النبي صلى الله عليه وسلم ابن عباس رضي الله عنهما على اغتنام أوقات الحياة وانتهاز فرصة وفرة المال وصحة الجسد وقوة الشباب ....في طاعة الله ورضوانه مشهور ومحفوظ : ( اغتنم خمسا قبل خمس : شبابك قبل هرمك و صحتك قبل سقمك و غناك قبل فقرك و فراغك قبل شغلك و حياتك قبل موتك ) المستدرك للحاكم برقم/7846 وقال : هذا حديث على شرط الشيخين ولم يخرجاه .

 

 

ختاما لا بد من التذكير بأن الله تعالى أكد في كتابه العزيز بأن الشيطان هو عدو الإنسان فقال تعالى : { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ....} فاطر/6 , وبما أن التسويف وسيلة من وسائل الشيطان لصد الإنسان عن التوبة والإقبال على طاعة الله تعالى وفعل الخيرات و..... فهو لذلك ليس عدو الإنجاز فحسب , بل عدو المؤمن أيضا .