بين الفضائيات ومواقع التواصل والتصدر للناس .. هذا هو دواء الدعاة
16 جمادى الأول 1438
د. خالد رُوشه

أحسن الناس قولا ، وأرفعهم قدرا ، وأرقاهم وظيفة ، وأهمهم عملا ، وأفضلهم أثرا ، هم الدعاة إلى الله ، الذين يعلمون الناس الخير والهدي ، ويبينون للناس طرق الصواب والاستقامة ، وينبهونهم ويحذرونهم من سبل الانحراف .

 

 

إنهم كأمثال المصابيح في دياجير الظلام الدامس ، يهتدي بهم التائه الحائر ، ويستضىء بهم الضال الجاهل ، ويستنير بخطوهم الباحث الصادق عن الحق .

 

 

لكن عملهم - ولأنه عمل رباني راق - يعتمد بالأصالة على القلوب الصادقة ، والنفوس المخلصة ، فلئن شابتهم شائبة في قلوبهم ونفوسهم ، عكرت عليهم أعمالهم ، وأفقدتهم البركة في أثرهم .

 

 

فهم لا يطلبون الأجر على أعمالهم على خلاف طلاب الدنيا فهم يسألون المقابل عن كل عمل يقومون به , لذلك كان كل نبي يقول لقومه " لا أسالكم عليه من أجر " .. ويعرفهم أنما أجره من الله سبحانه " إن أجري إلا على رب العالمين "

 

 

وكل من أحال الدعوة تجارة ، وحرف غايتها إلى الكسب والمنفعة الذاتية ، فهو وبال على الدعوة ، وخصم من رصيدها ، وانتكاس في سبيلها ، وإنما يجب أن تنقى الصفوف من أمثالهم ، ويؤمرون بالتوبة والإصلاح .

 

 

و الداعية يبتغي بعمله وجه الله وحده سبحانه , ويطلب رضاه , ولا يرتجي بدعوته مكانة عند الناس ولا منزلة ولا درجة , كما لايطلب سمعة ولا شهرة , ولا يشتري بدعوته عرضا من الدنيا أيا كان , وإذا كان صاحب الدعوة قدوة في مكانه فإن الخطب يكون أعظم وأبلغ أثراً فيما إذا لم يتجرد من حظ النفس ولم يخلص النية لله تعالى.

 

 

لقد رأينا من سنن الله سبحانه , أن الذين يرتجون الشهرة ويسعون وراء رؤية الناس دوما لا تصل دعوتهم لقلوب الناس , ولا تؤثر فيهم كلماتهم ولا أعمالهم , بل إن محبة الناس تنقطع عنهم , ويتفرق نهم التابعون في لظة من اللحظات .

 

 

وربما شاء الله سبحانه أن يخفي أحوال هؤلاء المرائين حفظا لدينة ورعاية لرسالته وحتى لا يفجع المؤمنون فيهم , لكنه سبحانه يحاسبهم بما يستحقون على اية حال سواء في الدنيا أو في الآخرة .

 

 

يقول ابن عثيمين - رحمه الله - : " والدعوة النابعة عن إخلاص مع القوة والعزيمة والاعتماد على الله لابد أن تؤثر وتعمل عملها .. ألا ترى إلى قصة موسى حين حشد الناس له ضحىً يوم زينتهم ، وجمع له فرعون كيده ، ثم أتى بأبهته وعزته وكبريائه (قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى)(طـه/61) فماذا فعلت هذه الكلمة ؟ لقد فرقت كلمتهم وشتتت شملهم في الحال (فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ )(طـه/62) والتنازع أكبر أسباب الفشل "

 

 

 

ويقول أيضا :  " كلام الأولين قليل كثير البركة ، وكلام المتأخرين كثير قليل البركة " .

 

 

كان محمد بن واسع يجلس قريبـًا من أحد الوعاظ وهو يعظ الناس ويقول: مالي أرى القلوب لا تخشع ، والعيون لا تدمع ، والجلود لا تقشعر ؟ فقال له محمد بن واسع : " ما أرى القوم أتوا إلا من قبلك ، إن الذكر إذا خرج من القلب وقع في القلب " .

 

 

إن سبيل الدعاة طويل ممتد , ووعر غير ممهد , وشاق غير يسير , والداعية فيه يحتاج إلى ما يقيم عوده ويقويه على عناء ذلك السبيل , ولن يجد الداعية ذلك إلا في الإخلاص لله تعالى , إذ الإخلاص يهون على المرء المصاعب والمتاعب والآلام , وكلما تذكر الداعية أن عمله إنما هو خالص لربه صبر وثبت واستمر .

 

 

والداعية دوما يحتاج قوة قلب وثبات جنان , مع راحة نفسية وطمأنينة الداخل وسكينة الأركان , فيصير هادئا غير أرعن , ثابتا غير متردد , مرتاح الضمير , رابط الجأش أثناء المواقف , وكل ذلك مبدؤه الإخلاص ومنتهاه , فالإخلاص يهدىء النفس إذ يجعل المرء يتصالح مع نفسه , فهو في ظاهره كباطنه , وهو يرتجي شيئا علويا سامقا عظيما , فيجتنب بذلك أمراض الفصام الشخصي الذي يصيب كثيرا من غير المخلصين ويحفظهم من الخواء الداخلي الذي يسقط المرء في حمأة الشهوة والشبهة .

 

 

 

لقد انتشرت بين الدعاة أمراض الرياء و الشهرة , وصار البعض يسعى للبروز ، وأن تشير إليه الأصابع وتلتفت إليه الأعناق , وصار البعض يتنافسون على كثرة عدد المتابعين أو الأصدقاء في مواقع التواصل , ولا علاج لذلك إلا بإيقاظ إخلاص النفوس والقلوب .

 

 

 يقول الغزالي  : " إن الداعية المرائي يقترف جريمة مزدوجة، إنه في جبين الدين سُبَّة متنقلة وآفة جائحة، , وتقهقُرُ الأديان في حلبة الحياة يرجع إلى مسالك هؤلاء الأدعياء، وقد رويت آثار كثيرة تفضح سيرتهم وتكشف عقباهم، والذي يحصي ما أصاب قضايا الإيمان من انتكاسات على أيدي أدعياء التدين لا يستكثر ما أعد لهم في الآخرة من ويل.. والعمل الخالص الطيب – ولا يقبل الله إلا طيبا – هو الذي يقوم به صاحبه بدوافع اليقين المحض وابتغاء وجه الله، دون اكتراث برضا أو سخط، ودون تحرٍّ لإجابة رغبة أو كبح رغبة "

 

 

و أكثر ما يمكن أن يعين الإنسان على الإخلاص لله سبحانه كثرة ذكره عز وجل , ففي ذكره تذكير دائم بعظمة ربه سبحانه , وتنبيه مستمر لوجوب الإخلاص , وتصغير من شأن المخلوقين مع تعظيم شأن الخالق , كما أنه لايقدر على استدامة الذكر إلا المخلصون , فلئن شعر الداعية بصعوبة قدرته على الذكر أو مشقة ذلك عليه فليراجع نفسه فإن في إخلاصه شىء .

 

 

 

ولايمكن أن يجتمع الإخلاص مع الانخراط في ملذات الحياة والتمرغ في نعيمها , وجعلها نصب عيني الداعية , فحري بهؤلاء الدعاة الذين يتصارعون على الدنيا أن يبحثوا عن الإخلاص ولن يجدوه إلا قريبا من زهد القلب فيها , ولايزهد القلب فيها إلا مع إخلاصه لمولاه , فكان الزهد والإخلاص صنوان وقرينان متتابعان , فمن فهم تلك العبارة فقد وفق .

 

وعلامة الإخلاص أن تكون تصرفات الداعية منبثقة من شعوره برقابة الله عز وجل عليه وحده، و متناسبة مع التكاليف الشرعية، وهذا دليل على تجريد القلب من الخضوع لأي قوة من قوى الأرض، وإخلاص هذا الخضوع لله تعالى وحده، فإذا تنازع قلبَه الخضوعُ لله تعالى في بعض السلوك والخضوع لقوى الأرض في أنواع أخرى من السلوك فإن هذا دليل على خلل في إخلاصه لله تعالى .

 

 

وإذا أراد الداعية إلى الله أن يقيم عمله ويختبر سبيله فليمحص إخلاصه , وليبحث في بواعث أعماله ودوافعها الحقيقية – وهو أعلم بنفسه - , فإن وجد دافعها شكر الناس ورغبة مدحهم له , وزيادة شهرته بينهم , فليقصر عن تلك الأعمال فهي بوار خاسر وهدم زائل , ومهما لقي من شكر الناس ومديحهم , مادام قد علم من نفسه سوء الباعث وخبث النية فهي ضده لاله " وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا " ..." وبدا لهم من الله مالم يكونوا يحتسبون ".. فليتعظ الدعاة إلى الله بهذا , وليقوّم كل منا عمله , وليتابع كل أحد سبيله , فلا خير إلا في الإخلاص فيه .