النعمة الكبرى
14 جمادى الأول 1438
د. خالد رُوشه

روى البخاري عن أنس رضي الله عنه أن غلاما من اليهود كان مرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فقعد عند رأسه فقال له أسلم فنظر إلى أبيه وهو عند رأسه فقال له أبوه أطع أبا القاسم فأسلم فقام النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول الحمد لله الذي أنقذه بي من النار " اخرجه البخاري والنسائي وابو داود

 

إن شتى النعم تنتهي بانتهاء تلك الحياة القصيرة الزائلة ، إلا هذه النعمة الباقية ، ذات الأثر الدائم ، الذي يفتح الطريق إلى الخلود الابدي والنعيم الذي لا يغيب ..

 

ورسالة الإسلام هي النور الأوحد في هذه الظلمات التي يرتع فيها الناس في ربوع الأرض ، والدنيا بغير نور الرسالة سواء مظلمة ..

 

وما أعظم منة الله وفضله علينا حين يصطفينا ويختارنا لنكون من خير أمة أخرجت للناس لنحمل كلمة لا إله إلا الله، التي بعث الله بها كل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

 

قال سبحانه : " كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ "، قال ابن عباس : يعني خير الناس وخير الأمم وأنفع الناس للناس ..

 

والحديث عن فضيلة الإسلام ونعمته لا نهاية له ولا حدود ، لكنني لست أنسى ذلك المشهد الغريب , الذي رأيته بعيني , بينما كنت في زيارة لإحدى الجامعات العالمية الكبرى , ووجدت واحدا من أساتذتها وعلمائها ينفرد بنفسه في غرفته , ويخرج من جيبه تمثالا صغيرا " لبوذا " فيضعه على مكتبه , ثم يقدم له قطعا من الفاكهة , ويخر له ساجدا وداعيا ومتمتما برجاءات ورغبات !!

 

قد لايعلم كثيرون أن هذا المشهد ومثاله يتكرر يوميا على مساحة الكرة الارضية ملايين المرات , لأتباع الديانات البوذية الدين يبلغ عددهم مئات الملايين , واشكالا أخرى لاتقل غرابة واستنكارا لأتباع الديانات الأخرى التي هي الأخرى تنتشر في كل مكان على وجه الأرض .. ( قرابة50% من سكان الأرض يدينون بديانات وثنية وأكثر من 25% يدينون بديانات محرفة )

 

وبصور شتى مختلفات يقف أناس قد بلغوا منتهى العلوم الحياتية , وجمعوا الثقافات من أطرافها , أمام قطعة من حجر أو خشب , أو أمام صورة أو تمثال , ممعنين في الخشوع راجين الرحمة , داعين بالمأمول في حياتهم

 

إن أكثر ما ينسجم مع العقل في النواحي الاعتقادية هو ما كان عن اتزان ووسطية واعتدال ,  فالإله الذي تعبد – أيها الإنسان - لابد وأن يتصف بصفات الربوبية الكاملة والألوهية التامة فلابد أن يكون : واحدا أحدا لا شريك له في ملكه ، غنياً قوياً , قادرا حكيما , عليما محيطا , حيا قيوما , فلا يضل ولا ينسى ولا يظلم عنده أحد , ولايبدل القول لديه ولاتفنى خزائنه ولا منتهى لرحماته .

 

والإسلام وحده في خطابه العقائدي يثبت ذلك كله لله سبحانه , ويدعو أنصاره إلى التيقن بذلك كقاعدة إيمانية ثابتة لا تتزعزع أبدا , ينشأ عنها السلوك الإيماني الصالح المرتكن على ركن ركين في الاعتقاد وفهم وسطي في التطبيق .

 

الغريب أن بعض الاديان التي لايزال ملايين من الناس شتى بقاع الأرض يدينون بها وينتمون إليها تبتدىء مسيرتها في الدعوة الإيمانية إلى انتقاص مقام الربوبية العظيم , وبالتالي تنتقص من مقام الألوهية الأسمى , فيرتضون الشريك , ويدعون إلى التثليث في العبادة والعقيدة , وآخرون قد ارتضوا في إيمانهم بأن يكون ربهم الذي يعبدوه فقيرا ( لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء ) آل عمران , كما ارتضوا أن يكون ضعيفا يصارع بعض عباده فيغلبه عبده ، وأن يبكي ويندم على فعل فعله !!

 

وآمن بعضهم بأن مخلوقاً ولد من رحم امرأة أن يكون إلها ، وآمنوا بأنه قتل ودفن وخرج من الأرض ليحكم العالم مرة أخرى !!

 

من أجل ذلك ترى إيمان هؤلاء في مجمله إيمانا كاذبا غير راسخ , وما ينتج عنه من سلوك هو سلوك ظاهري مؤقت غير متجذر , وتجد ارتباطهم بالأسباب الأرضية يمحو كل معنى للتوكل , وينسى كل قيمة للثقة بالإله المعبود , فتخرج القناعات ملوثة ضعيفة , وتهرب القيم والفضائل من مجتمعاتهم وأهدافهم , فلا عجب أن ترى الانحراف ولا غرابة أن ترى فيهم كل مسخ .

 

لقد قتل بعضهم أنبياءهم , وحرقوهم , ورموهم في الآبار , وعلى الجانب الآخر عظم قوم نبيهم حتى جعلوه في مصاف الآلة , إنه الإفراط والتفريط وكلاهما خطأ وكلاهما ذمه المنهج الإسلامي العظيم .

 

فالإسلام يقدم الرؤية الصائبة للألوهية والربوبية , ويثبت الحقائق التامة , ويهدي إلى سواء السبيل , فهو يعلم أتباعه أن الله خالق كل شئ , وقادر على كل شئ , عزيز حكيم , غفور رحيم , لا يسال عما يفعل , يدبر الأمر بحكمته , له الخلق والأمر , فلا مخلوق خارج عن سلطانه ولا تغيب عنه غائبة في الأرض ولا في السماء , يجري في ملكه ما شاء بإرادته وبعلمه , غني لا تفنى خزائنه , عليم وسع علمه كل شئ , واحد أحد فليس له ولد ولا شريك ولا زوجه , حي قيوم فلا يسهو ولا ينام , علي أعلى متعال على خلقه , " ليس كمثله شىء وهو السميع البصير "

 

ويعلم الإسلام أتباعه أن نبي الإسلام هو نبي الله الخاتم , كان بشراً , عاش كما يعيش البشر , وولد كما يولد البشر , ومات ودفن كما كل البشر , تزوج وأنجب , ومارس حياته كما يمارس الناس حياتهم , لكنهم يؤمنون أنه أفضل البشر وقد تخيره الله من بينهم .

 

وكان مؤيداً بالوحي من السماء , فإن تكلم بالوحي صدق وصٌدق , فلم يعبده أتباعه ولم يقدسوه التقديس المفرط كما فعل غيرهم , بل كان يعلمهم قائلا " إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله "

 

وفيما يخص اليوم الآخر فالإسلام يعلم أن يوم القيامة آت , وسيجتمع الجميع أمام الله , ويسألون عن أعمالهم , حيث لا  امتيازات ,  فلم يعتقد المسلمون في أنفسهم أنهم شعب الله المختار أو أنهم لن يحاسبوا مثل غيرهم , بل قالت آيات القرآن لهم : " وإن كل لما جميع لدينا محضرون " , وقالت : " فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثال ذرة شرا يره " .

 

وفي العقيدة الإسلامية أنه لا وساطة بين العبد وربه , ولا يغفر الذنوب إلا الله , وليس من المطلوب أن تعترف لأحد بذنبك , ولكن اعترف لربك ,  وتب إليه  , إذ إنه وحده القادر على المغفرة وقبول التوبة وكل العالمين لا يملك لك ولا لنفسه نفعاً ولا ضراً , فالذين اعتبروا تجارتهم دينهم , وباعوا للناس صكوك الغفران والتوبة , إنما اعتبرهم الإسلام تجارا كاذبين , وأنهم مخادعون مفترون على ربهم تمام الافتراء .. فالجنة في ملك لله , ولا يستطيع إنسان أن يمنح منها شيئا لأحد , ولا يبيع منها شيئا لأحد , ولايستطيع مخلوق أن يعد بها لأحد , أو أن يدخلها إلا برحمة الله سبحانه وبما قدم من سابق عمل صالح ..

 

لقد نشرت قبل أيام صحف أمريكية , تقريرا عن تزايد بالغ في بيع الرهبان الكبار صكوك الغفران وأماكن في الجنة لكل مريد من الإغنياء !!

 

فلك الحمد ربي الكريم على ماأنعمت علينا به من نعمة وفضيلة وماأكرمتنا به من عقيدة وشريعة .

إن الحاقدين ليسعون جاهدين لتشويه الصورة العظيمة لهذا الدين ، يساعدهم في ذلك سلوك بعض الجهال المغرر بهم من أبناء المسلمين ، والإسلام برىء من أي صورة سلبية تنشر حوله ، بل فيه الخير كله والفضل كله والرحمة كلها ..

 

إن واجبا علينا تجاه البشرية جميعا , أن نبث فيها الخير الذي هدانا الله إليه , وأن نعلمها الهداية التي فضلنا الله بها , وأن نبصرها بنور الرسالة الإسلامية الخالدة , لتخرجها من سبل المسخ والانحراف , وتقيمها نحو عبادة الله الواحد الأحد .