الجمعة المباركة و"الجمعة السوداء"
1 ربيع الأول 1438
أمير سعيد

ليس البيع محرماً يوم الجمعة، كما هو معلوم، إلا في وقت صلاة الجمعة فيحرم بالنسبة للرجال البيع والشراء وقتها، لكن ليس عن هذا تأتي هذه السطور.
 إنما تأتي على هذه الصرعة التي دهمتنا في الأسبوع الأخير من شهر نوفمبر الماضي حين هرع المشترون إلى محلات البيع لاسيما تلك التي تمثل فروعاً لمراكز بيع كبيرة في العالم.

 

الجمعة لدينا نحن المسلمين تمتاز  بخصوصية تعبدية بارزة؛ ففيها سوق كبير  لاكتساب الحسنات ورضا الله عز وجل، ففيها صلاة الجمعة المكفرة لذنوب الأسبوع كله ما اجتنبت الكبائر، وفيها فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وفيها ساعة إجابة، وفيها الاغتسال، وقراءة سورة الكهف التي تنير ما بين الجمعتين، وفضل قراءة سورتي السجدة والإنسان..، وهي عيد للمسلمين كما في سنن ابن ماجة وخير يوم طلعت عليه الشمس.. الخ، وهي بهذه الفضائل ما يجعلها جديرة بأن يُسعى إلى الذكر فيها وترك البيع، في وقت صلاتها.

 

أما الجمعة "السوداء" لدى الأمريكيين، فهي تلك التي تعقب "عيد الشكر" لديهم، ذاك العيد الذي يحتفل فيه الأمريكيون بذكرى سرقتهم لأموال السكان الأصليين لأمريكا، ونهب أراضيهم، وقتل محاربيهم ومدنييهم، إلى حد سلخ فروة كل هندي يتسلطون عليه، وذلك في واقعة بيكورت، التي تم فيها قتل أعداد غفيرة من الهنود وشرد آخرون وبيع من تبقى منهم، وقتل الحيوانات البرية التي كان الهنود يعتمدون عليها حتى يجبرونهم على الرحيل. تلك الجمعة هي التي تزدحم فيها مراكز البيع ويتدفق المشترون ويتزاحمون ويتعاركون أحياناً من أجل الظفر بتخفيض هنا أو هناك.

 

جمعتنا هي رمز الادخار للآخرة، وجمعتهم هي رمز الاستهلاك في الدنيا.. لا، لست أكتب لـ"أؤدلج" فكرة "الأوكازيون السنوي"، وأحملها ما لا تحتمل، بل لألفت نظراً حول هذه العولمة التي دهمتنا حتى فرضت علينا نمطاً استهلاكياً بغيضاً، تبدى فيه كثير من المشترين في صور ومقاطع بثت حول العالم تهدي إلى أن البشرية لا تبتعد كثيراً عن "البهيمية" إن هي تخلت عن مضامين عقائدها الأخلاقية؛ فإذا الانعكاس المرئي لا يشير إلا لحالة مقززة من التهافت على حطام دنيوي على نحو متدنٍ.

 

عرضت تلك المقاطع؛ فتبادر إلى ذهني على الفور كتاب العالم البارع أبي الحسن النووي "ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟!"، فلقد كانت صور الصراعات بين المشترين وركضهم وضياع مروءتهم للظفر بتخفيض يدير به التاجر الكبير أرباحه من خلال بساطة المشترين، ثم آلمني أكثر أن يصطف العالم كله خلف الأمريكيين كالقطيع للتأكيد من حيث يشعرون أو لا يشعرون على قيادة هذه الدولة التي قامت من أول ما قامت على الظلم والسرقة للعالم كله، ليس اقتصادياً فقط، وإنما عبر ثقافة، وأنماط معيشية واستهلاكية رجعية بكل ما تعنيه الكلمة.

 

لقد جاء في صحيح مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أضلَّ الله عن الجمعة مَن كان قبلنا، فكان لليهود يومُ السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا، فهدانا الله ليوم الجمعة، فجعل الجمعةَ والسبت والأحد، وكذلك هم تَبَعٌ لنا يوم القيامة، نحن الآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة، المَقْضِيُّ لهم قبل الخلائق". لقد جعلنا الله في المقدمة، وكان العالم لنا تبعاً فصيرنا أنفسنا ذيلاً لمجرميه من هوامير الاقتصاد العالمي في قلب بلاد الرأسمالية الجشعة.

 

ليست القضية يا من كنت شامة بين ملايين البشر في أنك ذهبت تهتبل فرصة لتحقيق ربح ظني بشراء شيء كنت بحاجة إليه أو توهمت أنك بحاجة إليه، كلا، الأمر يتجاوز هذا بكثير، نعم بكثير، وأنا هنا لا أدخل في دائرة الأحكام الشرعية، بل أخاطب النفس المسلمة التواقة إلى عزتها وتفردها.. أترضى يوماً أن ينزوي عيدك ليطل عليك عيد عالمي اسمه "عيد الشكر" على الإجرام؟! أترى جمعتكم، مزرعة الآخرة تلك رخيصة لتلك الدرجة التي تختص للركض خلف عروض الأوهام.. قف قليلاً، وانظر إلى أين يسير بنا هؤلاء الأوغاد.. وانتبه؛ فإن للعزة مقاما وحيدا .