الابتلاء بالنعم....وقلة الناجحين
24 صفر 1438
د. عامر الهوشان

 من المعلوم أن ابتلاء الله تعالى لعباده في هذه الحياة الدنيا يكون بالشر والمصائب والمحن أحيانا , وبالخير والنعم أحيانا أخرى , قال تعالى : { وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } الأنبياء/35

 

قال ابن كثير في تفسير الآية : أي : نختبركم بالمصائب تارة ، وبالنعم أخرى ، لننظر من يشكر ومن يكفر، ومن يصبر ومن يقنط ، كما قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : { ونبلوكم } يقول : نبتليكم بالشر والخير فتنة ، بالشدة والرخاء ، والصحة والسقم ، والغنى والفقر ، والحلال والحرام ، والطاعة والمعصية والهدى والضلال . 5/342

 

ومع تأكيد الكثير من آيات القرآن الكريم على حقيقة شمول ابتلاء الله تعالى لعباده وامتحانهم في هذه الحياة الدنيا بالخير والنعمة كما يبتليهم بالشر والشدة والنقمة , فقال تعالى : { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } الأنفال/28 , ومن المعلوم أن الأولاد والأموال نعمة وخير ... , وقال تعالى : { ..... وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } الأعراف/168 .......

 

إلا أن غفلة كثير من المسلمين عن ابتلاء النعم من الوضوح بمكان , وعدم استشعارهم لكون ما هم عليه من خير وفضل من الله تعالى إنما هو فتنة واختبار وامحتان , ليعلم من يشكر ممن يكفر ...قد لا يحتاج مع الواقع المشاهد إلى دليل أو برهان .

 

قال ابن كثير رحمه الله في فتنة الأموال والأولاد الوارد في الآية { وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ } أي : اختبار وامتحان منه – سبحانه - لكم ؛ إذ أعطاكموها ليعلم أتشكرونه عليها وتطيعونه فيها ، أو تشتغلون بها عنه، وتعتاضون بها منه ؟؟ 4/42

 

قد تكون غفلة الناس عن امتحان الله تعالى لهم بالنعم والخيرات عائد إلى دوامها واعتيادهم عليها مع مرور الزمن , وعدم الانتباه إلى بعض المحرومين من تلك النعم , والظن بأن تلك النعم يتمتع بها جميع خلق الله تعالى دون استثناء .

 

والحقيقة أن خطورة ابتلاء النعم كامن في تلك الغفلة عن كونها ابتلاء عند كثير من المسلمين , وفي ذلك الخفاء في أن النعم بحد ذاتها اختبار وامتحان , فهناك من الناس من حصر مفهوم الابتلاء على المصائب والمحن والشدائد فحسب , ولم يعي أن النعم التي يتقلب بها كثير من عباد الله ليل نهار إنما هو في الحقيقة ابتلاء أيضا .

 

ومن هنا اعتبر بعض العلماء أن ابتلاء النعمة أشد وطأة من امتحان المحن , وأن اختبار الخير أصعب في الحقيقة من اختبار الشر , فإذا كان الكثير ممن ابتلاهم الله تعالى بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات يصبرون ويحتسبون , ويتجاوزون الامتحان بنجاح وفلاح , فإن القليل فقط من يفطن أن ما يتمتع به من نعم , وما يتقلب فيه من خير وفضل من الله تعالى إنما هو ابتلاء وامتحان , فضلا عن أن يتجاوز ذلك الامتحان بنجاح من خلال الشكر وطاعة الله في تلك النعم .

 

والحقيقة أن واقع حال كثير من المسلمين يؤكد ما سبق , فقليل منهم من يتجاوز اختبار إغراء المال وفتنة لمعان الذهب والفضة بنجاح , و لعل الأقل من يتقي الله تعالى ويراقبه في ابتلاء الجاه والمنصب والسلطان , ويخرج منه دون تبعات أو فشل و رسوب .

 

لقد أثبت كتاب الله هذه الحقيقة فقال سبحانه بعد أن عدد آلاءه ونعمه على نبيه داود وسليمان عليهما السلام إذ قال سبحانه : { .......اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ } سبأ/13 , كما أن المتتبع لنماذج الناجحين في اختبار النعمة في القرآن الكريم يتأكد له أنهم قلة من الأنبياء والصالحين , منهم نبي الله سليمان عليه السلام الذي استشعر نعم الله الكثيرة عليه بعد سماعه كلام النملة : { فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ... } النمل/19 , كما رد الفضل إلى صاحب الفضل سبحانه حين رأى عرش بلقيس أمامه قبل أن يرتد إليه طرفه فقال : { فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } النمل/40

 

في المقابل ذكر القرآن الكريم قصة قارون الذي رسب في ابتلاء النعمة أيما رسوب , إذ طغى وتجبر بما أنعم الله عليه , وجحد فضل الله وكرمه فقال : { قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ ............ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ } القصص/78- 81

 

كما عرض القرآن قصة أصحاب الجنة الذين لم ينجحوا في اختبار النعمة حتى ذاقوا عقوبة من الله تعالى , فاعترفوا بخطئهم وأنابوا إلى ربهم , قال تعالى : { إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ ..... قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ } القلم/17-32

 

وفي السنة النبوية ما يدل على أن الناجحين باختبار وابتلاء النعمة قليل , بينما الراسبون في ذلك الامتحان هم الأكثر , ففي حديث الأبرص والأقرع والأعمى من بني إسرائيل الذين ابتلاهم الله تعالى بالنعمة , لم ينجح في الامتحان إلا الأعمى , بينما رسب الأبرص والأقرع في الاختبار , حيث ورد على لسان الملك الذي أرسله الله تعالى لاختبارهم في نهاية الحديث : ( ..... أَمْسِكْ مَالَكَ فَإِنَّمَا ابْتُلِيتُمْ فَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْكَ وَسَخِطَ عَلَى صَاحِبَيْكَ ) صحيح البخاري برقم/3464

 

ختاما أذكر نفسي و القارئ الكريم بقول الله تعالى : { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ } التكاثر/8 , وبأن فتنة النعم واختبار كثرة الخير وانفتاح الدنيا والتنافس عليها هو أخوف ما خافه الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم على أمته من بعده .
 
 

ففي الحديث أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ إِلَى الْبَحْرَيْنِ يَأْتِي بِجِزْيَتِهَا ..... فَقَدِمَ أَبُو عُبَيْدَةَ بِمَالٍ مِنْ الْبَحْرَيْنِ , فَسَمِعَتْ الْأَنْصَارُ بِقُدُومِ أَبِي عُبَيْدَةَ فَوَافَوْا صَلَاةَ الْفَجْرِ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , فَلَمَّا انْصَرَفَ تَعَرَّضُوا لَهُ فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ رَآهُمْ ثُمَّ قَالَ : ( أَظُنُّكُمْ سَمِعْتُمْ أَنَّ أَبَا عُبَيْدَةَ قَدِمَ بِشَيْءٍ ) قَالُوا : أَجَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ . قَالَ ( فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ فَوَاللَّهِ مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ ) صحيح البخاري برقم/4015