عندما تبتلع بلادنا حضارة الأفراد !
23 شوال 1437
د. خالد رُوشه

في عمر الدول الفتية عادة لا تؤثر الأدوار الفردية مهما كان أثرهم العلمي أو الفلسفي أو السلطوي  , ولا حتى الأدوار الحزبية والجماعية , تأثيرا يغير مسيرة الأمم , بل يسيرون في ركاب الحضارة الغالبة, ونتاجها الثقافي , وتكون تأثيراتهم تابعة للفكر المسيطر , والقيم التي أنتجتها حضارتهم , والمبادىء التي رسختها .

 

 

ومهما حاول الأفراد , ومهما حاولت الجماعات والأحزاب أن تغير تلك المسيرة لا تفلح , لأن النتاج الحضاري مترسخ متجذر في النفس البشرية , ولأن الحضارة القوية تستطيع إملاء شروطها وقوانينها على جميع أفرادها مهما قويت شوكتهم ..

 

 

الحضارة الرومانية نموذج ماثل أمامنا , إذ تتابع عليها القياصرة بحاشيتهم الواسعة وفلاسفتهم وأحزابهم , لكنهم لايكادون يذكرون بسياسات متميزة عبر التاريخ ,  ولا بآثار تغيرية اجتماعية واسعة برغم تفرد كل منهم بها, إذ كان النتاج الحضاري الطاغي يذيب الأثر الفردي لهم..

 

 

يبدو ذلك بصورة أقل في الدول الغربية , إذ تسيطر مفاهيمها الحضارية على حركة المسئولين والقادة والحركة الحزبية والجماعية , مهما تفردوا برؤى جديدة ..

 

 

فالانتخابات الأمريكية تمر علينا كل مرة بعاصفتها الشديدة المتكررة , ورؤاها المختلفة التي قد تصل إلى حدود واسعة في المناهج والاساليب المتبناه , لكن الحقيقة أن ذلك الاختلاف إنما هو يقع في التفاصيل لا في الكليات , ويقع في الوسائل لا في المبادىء .

 

 

فالمبادىء الغربية للحضارة الغربية وكأنها راسخة منذ عقود طويلة , يتوارثها أجيالها , ويتربى فيها أفرادها , يتشربون منها , ثم يبرز أحدهم أو جماعة منهم لتتقلد منصبا رفيعا أو تؤدي دورا حساسا ..

 

 

حتى هؤلاء المسئولين والقادة وغيرهم يقعون تحت طائلة الحساب القيمي إذا هم خالفوا مسيرة الحضارة التي لاتزال تسيطر ..

 

 

وبنظرة بسيطة إلى استراتيجية القوة التي قامت عليها الحضارة الغربية و التي تتبناها الدول الغربية تجاه المجتمعات المختلفة تستطيع أن تعرف أن الكيانات السياسية المتعاقبة جميعها تؤكد عليها وتتبنى منها نموذجا أوحد لايكاد يختلف أو يتغير , بل في بعض الأحيان يستمر القادة العسكريون يتقلدون نفس المناصب بنفس الرؤى والاعتقادات الدموية اوالعنصرية في بعض الأحيان والأساليب القاسية برغم تغيير القادة السياسيين !

 

 

في بعض المناطق الأخرى , ومع ضعف الأثر الحضاري , تبرز الآثار الفردية والحزبية والجماعية في تغيير مسيرة المجتمعات بصورة واسعة , سواء على المستوى الثقافي أو البنائي المادي أو حتى القيمي التطبيقي !

 

 

بلادنا العربية يبدو هذا في كثير منها بجلاء , فمع اختلال واغتراب الأثر الحضاري للحضارة الإسلامية وما نتج عن ذلك من آثار واضحة في تسرب القيم الدخيلة من المجتمعات الغربية والشرقية , وضعف المنظومة القيمية الحضارية , صار الأثر الفردي كأقوى ما يكون , بل طمع الأفراد في بعض البلاد بتغيير الأنماط الثقافية ذاتها , وفرض رؤية جديدة تماما على المجتمع قد تبعد كثيرا عن مسيرة حضارتها ..

 

 

الحضارة الإسلامية كانت دائما عصية على كثير من محاولات تسلط الأفراد عليها , بل كانت صلبة في مواجهة الغزو الدولي المختلف عبر سنين طويلة ..

 

 

لكنها ومع طول هذه الحرب الموجهة لها والمترصدة لرؤيتها المنهجية , ومع قوة خصومها وضعف أبنائها , وتراجع قدرتهم , وكثرة الطاعنين لها بينما هي تعيش مرحلة الضعف , بدأ أثرها في الاغتراب عن حياة الناس وتطلعاتهم ومستقبلهم .

 

 

وبدلا من أن يصب الناتج الثقافي والمادي المجتمعي في بناء الحضارة صار يساعد في بناء المصلحة الفردية والحزبية , ومن ثم حدث الانقسام المجتمعي , فالجميع ليس على قلب واحد ولا بهدف واحد ولا ينتمي لحضارة واحدة !

 

 

هذا الانقسام الواضح هو برأيي انقسام قناعة بتلك الحضارة التي يجب أن يحيا في ظلها الأفراد .

 

 

ماذا إذا صار الكثيرون قانعين بالحضارة الغربية تمام القناعة , ويجعلون طموحهم البعيد هو المشاركة في بنائها بأن يكون لبنة من لبناتها , بل يرى أن قيمها هي التي ينبغي أن تعزز وترسخ وتحل محل غيرها على شتى المستويات !

 

 

الأزمة الحضارية الآن تتفاقم لأن الأجيال الصاعدة بذاتها تضغط على الحضارة المريضة الجريحة , وتطعنها بأشكال مختلفة , بل إنها لترفض نتاجها الثقافي , وتستحقره مقارنة بالحضارة الغربية , أَضف إلى ذلك ذلك الدور الفردي السلطوي , والدور الحزبي ودور جماعات المصلحة !

 

 

الشىء الوحيد الذي يعطيني الأمل هو أن تلك الحضارة الإسلامية قائمة على منهاج الله سبحانه , وأن بها القدرة الذاتية على تجاوز المحن , وأن التاريخ قد قذفها بالعديد من قذائفه المؤلمة , مرضت فترة , ونزفت فترات , لكنها لم تنكسر ..