المقصود بالفتور هنا الفتور عن الطاعة والتقرب إلى الله بأعمال البر كافة سواء في مواسم العبادة والإقبال على الله كشهر الصيام وغيره من أيام الله ونفحاته , أو في بقية أيام العام العادية .
والحقيقة أن ظاهرة الفتور ظاهرة عامة غالبا , ولا يكاد ينجو منها أحد إلا من رحم الله , فمَن من المسلمين لا تنتابه أيام أو ساعات من الفتور عن الطاعة والعبادة ؟! ولعل عموم بلوى الفتور هو ما يجعل الحديث عن هذه الظاهرة ومحاولة تلمس سبل علاجها في ضوء ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم من الضرورة والأهمية بمكان .
وإذا كان الفتور ظاهرة تحتاج إلى علاج خلال أيام العام العادية , فإن الحاجة إلى علاج هذه الظاهرة في مواسم الخير و أيام الله أشد , نظرا للخير العظيم الذي قد يفوت المسلم في تلك الأيام إن تسلل الفتور إلى نفسه أو تسربت بواعث الكسل إلى قلبه , أو تمكن التقاعس عن الطاعة من أعضائه .
والحقيقة أن مظاهر فتور الكثير من المسلمين عن طاعة الله وعبادته والإقبال عليه سبحانه في شهر الصيام كثيرة , تدركها عين الناظر دون عناء , وتلحظها بصيرة العاقل دون جهد , فهي من الوضوح والعلانية بمكان .
فبينما تكاد المساجد في أول أيام شهر الصيام لا تتسع لروادها - خصوصا في صلاة القيام أو الفجر - من شدة إقبال المسلمين على طاعة الله وحرصهم على صلاة الجماعة .... يمكن ملاحظة تقلص هذه الأعداد شيئا فشيئا مع مرور الأيام , حتى إذا انتصف شهر القرآن واقترب العشر الأخير , لم تجد خلف إمام التراويح أو الفجر إلا بضعة صفوف لا تساوي ثلث ما كان عليه الحال في أول الشهر الكريم .
وإذا كان الفتور عن صلاة القيام والفجر في المسجد جماعة مما يمكن ملاحظته وإدراكه وقياسه , فإن ما خفي من مظاهر الفتور كــ تلاوة كتاب الله والأذكار وأعمال البر والخير الأخرى .... أعظم , فمن كان يقرأ في بداية الشهر جزئين أو ثلاثة كل يوم , لا يكاد يقرأ في أواخر العشر الأوسط بضعة صفحات , ومن كان لسانه لا يفتر عن ذكر الله في أول موسم الخير لا نراه يثابر على ذلك الذكر قبيل العشر الأخير .... وهكذا في بقية أعمال البر و وجوه الخير كلها .
فكيف عالج الإسلام ظاهرة الفتور عن طاعة الله والإقبال عليه عند كثير من المسلمين في شهر الصيام وأيام الله على وجه الخصوص ؟!
لعل من أهم معالم علاج الإسلام لهذه الظاهرة في شهر الصيام أن جعل أفضل أيام رمضان وأكثرها خيرا وبركة وأجرا ومثوبة عند الله في العشر الأخير منه , فمن المعروف أن ليلة القدر التي جعل الله تعالى قيامها خير من ألف شهر هي في العشر الأخير من رمضان , ففي الحديث عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ ( تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنْ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ ) صحيح البخاري برقم/2017
ولا يخفى ما في جعل ليلة القدر في العشر الأخير من رمضان من حكمة وسبب في علاج ظاهرة الفتور عند بعض المسلمين , فكأن الله تعالى يحفز عباده من خلال هذا التأخير لخير أيام رمضان وأفضلها مكانة وقدرا عنده سبحانه لمواصلة الطاعة والعبادة حتى آخر الشهر الكريم , بل و يستنهض هممهم كي يكونوا في هذا العشر أشد اجتهاد في العبادة والإقبال على الله مما كانوا عليه في أول الشهر الكريم .
وفي هذا يقول العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله : "العشر الأواسط من رمضان أفضل من العشر الأول , والعشر الأواخر أفضل من العشر الأواسط , وتجدون هذا مطرد في الغالب , وأن الأوقات الفاضلة آخرها أفضل من أولها , فيوم الجمعة عصره أفضل من أوله , والحكمة من هذا والله أعلم : أن النفوس إذا بدأت بالعمل كلت وملت , فرُغّبت بفضل آخر الأوقات على أولها حتى تنشط فتعمل العمل الصالح " اللقاء الشهري 4/71
نعم ....إن في تأخير ليلة القدر إلى العشر الأخير من رمضان علاج وأي علاج لظاهرة الفتور عن طاعة الله , ويكفي دليلا على ذلك ما يفعله دخول العشر الأخير من رمضان من عودة للحياة الإيمانية والتعبدية في نفوس وقلوب كثير من المسلمين , ناهيك عن عودة الروح إلى المساجد من خلال عودة الكثير من الطامعين بفضل الله وكرمه المكنون في ليلة القدر .
وكيف لا يكون ذلك الإقبال والاجتهاد في الطاعة عند أتباع الدين الخاتم في تلك الأيام , وهم يعلمون أن نبيهم صلى الله عليه وسلم كان يجتهد في العبادة في العشر الأخير من رمضان ما لا يجتهد في غيرها , فقد ورد في الحديث الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره ) صحيح مسلم برقم/1175
وفي حديث آخر وصفت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فعل الرسول الكريم في العشر الأخير فقالت : ( كان رسول الله صلى الله عليه و سلم إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وجد وشد المئزر ) صحيح مسلم برقم/ 1174
وإذا ما دقننا في سنة الاعتكاف في المسجد في العشر الأخير من رمضان , فإننا سنجدها وسيلة أخرى من وسائل الإسلام في معالجة ظاهرة الفتور عن الطاعة عند البعض , وكيف لا تكون سنة الاعتكاف كذلك وهي في الحقيقة انقطاع كامل للعبادة والطاعة والإقبال على الله ؟!
لقد رغب النبي الكريم صلى الله عليه وسلم المسلمين في الاعتكاف , وضرب لنا من فعله صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة في أهمية هذه السنة التي قد يغفل عنها كثير من المسلمين في هذا العصر , ولا يخفى ما في ذلك من إخماد للفتور وإحياء للهمة والنهوض إلى الله تعالى .
ففي الحديث الصحيح عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضى الله عنهما أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَعْتَكِفُ فِى الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ . صحيح مسلم برقم/2837
بل إن الأحاديث الصحيحة تؤكد أن النبي صلى الله عليه وسلم ما ترك الاعتكاف في هذه الأيام حتى توفاه الله تعالى , ففي الحديث الصحيح عن عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - أَنَّ النَّبِىَّ - صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ . صحيح مسلم برقم/2841
لا يبقى أمام من أصيب بشيء من الفتور عن الطاعة والعبادة في هذه الأيام المباركة - بعد ما سبق - إلا أن يحفز روحه بما وعد الله عباده من الخير والمثوبة إن هم استمروا على طاعة الله وعبادته حتى آخر شهر الصيام , وأن يستنهض جوارحه للاجتهاد في العبادة والطاعة كما كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في العشر الأخير من رمضان .
وليتذكر المسلم دائما أن الأمور بخواتيمها , فمن فتر عن طاعة الله قليلا في هذه الأيام , فليجعل من العشر الأخير من هذا الشهر الكريم وسيلة له لعلاج فتوره وعودة اجتهاده في عبادة الله والإنابة إليه , حتى يختم شهره بما بدأه من همة وإقبال على الله , بل يختمه بأفضل مما بدأه وأحسن .