في زمن تزداد فيه أمراض القلوب بأضعاف مضاعفة عن أمراض الأجساد التي تطالعنا وسائل الإعلام عن جديد فيها كل أيام , وفي عصر تتكاثف فيه على الأفئدة حجب الكراهية والبغضاء والحقد والغل والحسد....تكون فيه الحاجة ماسة للحديث عن سلامة القلوب ونقائها , كما يكون فيه التنبيه إلى أن النجاة غدا يوم القيامة هو حليف أصحاب القلوب السليمة ضرورة واجبة .
والحقيقة أن من يرصد مظاهر وأعراض أمراض القلب والروح والإيمان بين المسلمين في هذا العصر الذي نعيشه , يدرك أن خطرها على الأمة أشد بكثير من أمراض الأجساد والأبدان , فانتشار الرياء والنفاق والكبر والعجب والفخر بين صفوف كثير من المسلمين يفقد عبادة الجوارح – كالصلاة والزكاة والحج ...وغيرها و إن كانت كثيرة – حقيقتها وجوهرها وثوابها , كما أن استقرار الحسد والبغض والكراهية صدور الموحدين يتنافى مع كثير من آيات كتاب الله وسنة رسوله الصحيحة التي توجب سلامة الصدر تجاه المؤمنين كشرط للفوز والنجاة يوم الدين .
وإذا تحدثنا عن تعلق القلوب بغير الله تعالى في هذه الأيام العصيبة التي تمر بها الأمة , و عن رصد بعض مظاهر الأمن من مكر الله واليأس من روح الله تعالى , ناهيك عن معاينة بعض علامات عدم الرضا عن الله , وعدم الصبر على قضائه وقدره , وعدم التوكل عليه حق التوكل وخاصة في أوقات الشدة والمحن ......فإن ذلك مما يزيد من تأكيد خطر أمراض القلوب وتأثيرها على مستقبل المسلم غدا يوم القيامة .
لم تكن أهمية القلب ومركزيته واعتباره معيارا لصلاح المسلم وفساده أمرا اجتهاديا او رأيا بشريا , بل هو أمر مقرر شرعا من خلال نص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي يعتبر فيه القلب ملك الأعضاء بلا منازع : (....... أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ ) صحيح البخاري برقم/52
كما أن ن قضية تقييد نجاة المسلم غدا يوم القيامة بسلامة هذا القلب من الأمراض الفتاكة والأسقام العليلة والسمات المذمومة المرذولة ....هو تقييد إلهي وتقرير سماوي , فقد جاء في كتاب الله تعالى على لسان نبي الله ابراهيم عليه السلام في معرض ثنائه على ربه سبحانه : { وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } الشعراء 87 – 89
و رغم أن بعض المفسرين الأوائل من السلف الصالح قد ذهب إلى أن المقصود من قوله تعالى : "بقلب سليم" سلامته من الشرك وما يفسد التوحيد الخالص وأصول العقيدة الصحيحة...فقال محمد بن سيرين : القلب السليم أن يعلم أن الله حق ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث مَنْ في القبور.
وقال ابن عباس: { إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } حَيِي يشهد أن لا إله إلا الله , كما قال مجاهد والحسن وغيرهما: { بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } يعني: من الشرك.
وذهب سعيد بن المسيب إلى أن القلب السليم : هو القلب الصحيح، وهو قلب المؤمن؛ لأن قلب الكافر و المنافق مريض، قال الله: { فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ } البقرة/10 , وزاد أبو عثمان النيسابوري : هو القلب الخالي من البدعة ، المطمئن إلى السنة ...... تفسير ابن كثير 6/ 149
إلا أن القرطبي - رحمه الله - مال إلى قول الضَّحَّاكُ العام في تفسير المقصود من القلب السليم حيث قال : "السَّلِيمُ الْخَالِصُ" , وأكد أن هَذَا الْقَوْلُ يَجْمَعُ شَتَاتَ الْأَقْوَالِ بِعُمُومِهِ وَهُوَ حَسَنٌ، أَيِ الْخَالِصُ مِنَ الْأَوْصَافِ الذَّمِيمَةِ ، وَالْمُتَّصِفُ بِالْأَوْصَافِ الْجَمِيلَةِ ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
واستند القرطبي في الميل إلى هذا الرأي بحديث أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَقْوَامٌ أَفْئِدَتُهُمْ مِثْلُ أَفْئِدَةِ الطَّيْرِ ) صحيح مسلم برقم/7341 يُرِيدُ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّهَا مِثْلُهَا فِي أنها خالية من ذَنْبٍ ، سَلِيمَةٌ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ. الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 13 /114-115
نعم.....لا ينفع المسلم يوم القيامة كثرة عباداته الجسدية الصالحة – من نوافل الصلاة والإنفاق وكثرة أداء العمرة ....- إن كان قد أفسدها ببعض أمراض القلب كالرياء وعدم الإخلاص لله تعالى , وقد ورد في الحديث عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( أول الناس يدخل النار يوم القيامة ثلاثة نفر يؤتى بالرجل فيقول رب علمتنى الكتاب فقرأته آناء الليل والنهار رجاء ثوابك فيقال كذبت إنما كنت تصلى ليقال إنك قارئ مصلٍّ وقد قيل اذهبوا به إلى النار ......) المستدرك للحاكم برقم111 . وهكذا المنفق رياء والمجاهد سمعة .
في المقابل ينتفع المؤمن من العبادات القليلة التي يؤديها ما دام يحمل قلبا سليما من الأحقاد والأضغان والحسد تجاه المسلمين , وما قصة الرجل الذي بُشر بالجنة لسلامة قلبه من الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم وهو ما يزال يمشي على وجه الأرض مع قلة عمله الصالح بعد أداء الفرائض إلا خير دليل على ذلك .
ففي الحديث عن أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ ( كُنَّا جُلُوسًا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَطَلَعَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ تَنْطِفُ لِحْيَتُهُ مِنْ وُضُوئِهِ قَدْ تَعَلَّقَ نَعْلَيْهِ فِي يَدِهِ الشِّمَالِ ....ثلاثا , فَلَمَّا قَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَبِعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ فَقَالَ : إِنِّي لَاحَيْتُ أَبِي فَأَقْسَمْتُ أَنْ لَا أَدْخُلَ عَلَيْهِ ثَلَاثًا فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تُؤْوِيَنِي إِلَيْكَ حَتَّى تَمْضِيَ فَعَلْتَ . قَالَ : نَعَمْ .
قَالَ أَنَسٌ : وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ يُحَدِّثُ أَنَّهُ بَاتَ مَعَهُ تِلْكَ اللَّيَالِي الثَّلَاثَ فَلَمْ يَرَهُ يَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ شَيْئًا غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَّ وَتَقَلَّبَ عَلَى فِرَاشِهِ ذَكَرَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَكَبَّرَ حَتَّى يَقُومَ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ , قَالَ عَبْدُ اللَّهِ غَيْرَ أَنِّي لَمْ أَسْمَعْهُ يَقُولُ إِلَّا خَيْرًا . فَلَمَّا مَضَتْ الثَّلَاثُ لَيَالٍ وَكِدْتُ أَنْ أَحْتَقِرَ عَمَلَهُ قُلْتُ : يَا عَبْدَ اللَّهِ إِنِّي لَمْ يَكُنْ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي غَضَبٌ وَلَا هَجْرٌ ثَمَّ وَلَكِنْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَكَ ثَلَاثَ مِرَارٍ يَطْلُعُ عَلَيْكُمْ الْآنَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَطَلَعْتَ أَنْتَ الثَّلَاثَ مِرَارٍ فَأَرَدْتُ أَنْ آوِيَ إِلَيْكَ لِأَنْظُرَ مَا عَمَلُكَ فَأَقْتَدِيَ بِهِ فَلَمْ أَرَكَ تَعْمَلُ كَثِيرَ عَمَلٍ فَمَا الَّذِي بَلَغَ بِكَ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟! فَقَالَ : مَا هُوَ إِلَّا مَا رَأَيْتَ ..غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا وَلَا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ . فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ وَهِيَ الَّتِي لَا نُطِيقُ ) مصنف عبد الرزاق برقم/20559 ومسند الإمام أحمد 3/166 وقال محقق المسند شعيب الأرنؤوط : إسناده صحيح على شرط الشيخين .
قليل هم أؤلئك الذين يحملون قلوبا بهذ الصفاء والنقاء المذكور في الحديث في هذا الزمن الذي طغت فيه المادة على الروح , حتى أضحت القلوب السليمة أمرا عزيزا ومن الندرة بمكان , رغم أن كلام الله تعالى اختصها دونا عن المال والأولاد بالنفع في ذلك اليوم الذي يفر فيه المرء من أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه .
ومن هنا تنبع أهمية التذكير الدائم بفضل تنقية القلوب من رذائلها وتحليتها بفضائلها , والتأكيد على أن سبيل المؤمن للنجاة يوم القيامة هو بلا شك : القلب السليم .