التربية بالحرية ..
21 ربيع الثاني 1437
د. خالد رُوشه

لاشك أن العبيد لا يصنعون حضارة , فهم مقيدون في رؤيتهم وقدرتهم وسلوكهم , مرتبطون بسيدهم , وايا كانت تلك العبودية فهي قيد معيق لكل تقدم على مستوى الإنجاز , فعبودية الإنسان للإنسان مذلة وخسران , وعبوديته للمادة والمال ارتكاس وانتكاس .

 

 

إلا أن تكون عبودية لرب الأرباب سبحانه , فهي عندئذ عبودية التحرر الكامل إذ عبوديتك هنا هي عين الحرية الكاملة , فأنت عبد لمالك الملك الرحمن الرحيم , الخالق البارىء , الكبير المتعال , الحي القيوم , فعبوديته رقي وسمو , وكبرياء وعزة , وثقة وطمأنينة وسكينة .

 

 

هذا المفهوم مهم للغاية في بنائنا التربوي , إذ يلزم من بناء الشخصية الإسلامية أن تتبرأ من كل عبودية إلا عبودية ربها العظيم , ثم تعبده حق عبادته , فتسعى لينطبق عليها حق العبودية له سبحانه , فهي عندئذ حرة حرية حقيقية .

 

 

الشخصية الفعالة التي نريدها شخصية شجاعة , فلا تخشى ضررا إذ تعلم أنه لن يصيبها إلا ما كتب الله لها  , معطاءة فلا تخاف فقرا ولا تخشى ضياع رزق , إذ تعلم أن رزقها قدره رازقها .

 

 

على جانب آخر فإن العبيد للمادة والأشياء تعساء منتكسون , إذ يقول صلى الله عليه وسلم : " تعس عبد الدرهم تعس عبد الدينار تعس عبد القطيفة تعس عبد الخميصة تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش .. الحديث " البخاري

 

 

إسلامنا له موقف واضح من بناء معنى الحرية في النفس المؤمنة , أحاديث كثيرة وتوجيهات نبوية متتابعة تؤكد على المعنى الذي نقصده :

 

 

 فعن أبي سعيد الخدري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : " لا يمنعن أحدكم مخافة الناس أن يتكلم بحق إذا رآه أو عرفه " اخرجه ابن حبان .

 

 

فالخوف لا ينبغي أن يمنع المرء عن قول الحق , بل يجب على المرء أن يربي نفسه وأبناءه على قول الحق بلا مخافة للمخلوقين , إذ المخافة تبدأ في صناعة قيد على معصم الحرية للإنسان .

 

 

وفي حديث مسند أحمد ناحية إضافية لما نريد أن نقوله , فعن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يحقرن أحدكم نفسه أن يرى أمر الله فيه مقالا ، فلا يقول فيه ، فيقال له يوم القيامة : ما منعك أن تكون قلت في كذا وكذا ؟ فيقول : مخافة الناس ، فيقول : إياي أحق أن تخاف "

 

 

إنها حرية الكلمة التي ربى عليها الرسول صلى الله عليه أصحابه , فأدركوا ذلك فخرج أبو بكر وهو خليفة المسلمين يسأل الناس أن يُقوموه إذا اعوج , وخرج عمر يفسح المجال لشاب ليسأله على شيء من خصوصياته وهي ثوبه – الذي لم يكن يمتلك غيره – فيسأله من أين لك هذا .

 

 

لقد علمهم حرية السؤال والاستفسار والنصح والتناصح , فيبايع الناس على " النصح لكل مسلم " مسلم , وتسأله امرأة عن خصوصيات ذاتية قائلة "الله لايستحيي من الحق " البخاري , وشاب يأتيه بشجاعة نادرة يناقشه في " أن يحل له الزنا " مسلم .. وغيرها كثير , ليتعامل الإمام الأعظم والرسول الأكرم مع كل حالة بكل حكمة وسعة صدر , فيعلم المرأة ويطهر قلب الشاب الذي جاءه بمرض الشهوة ويعيد بناء النفوس جميعا ...

 

 

لقد تعدى الأمر ذلك , فقد واجه النبي صلى الله عليه وسلم مواقف سلبية كثيرة من الناس , وبعضهم قد اساء في سلوكه , وبعضهم طلب منه المال بأسلوب فظ غليظ لايليق بنبي عظيم , لكنه صلى الله عليه وسلم علمنا في كل موقف درسا جديدا في التعامل والعلاج والحكمة , وإذا به يخرج منتصرا في كل موقف , فتنتصر مبادئه وقيمه وثوابته ودينه وإيمانه , على الرغم من أنه لا ينتصر لنفسه ابدا ..!

 

 

ما يشحذ حرية المرء في الإسلام هي عقيدته , تلك التي تشعره بإيمانه الأعمق بربه القادر الذي هو يدافع عن الذين آمنوا وأن : ماأصابك لم يكن ليخطئك ...

 

 

الحرية الإسلامية هي نوع متميز عالميا من الحريات , فهي حرية تكفل الكرامة والعزة وأخذ الحقوق , لكنها أيضا حرية تحافظ على أمن البلاد والعباد وترعى الأخلاق والقيم والآداب والأعراف القويمة , ولا تضر النفس ولا الغير ولا المجتمع ولا مؤسساته ولا مصالح أفراده , إذ " لا ضرر ولا ضرار " الترمذي .