مقام العلم والتربية مقام رفيع عال سامق , لا يناله المرء بمجرد الحفظ أو الشهرة , لكن يناله بالتطبيق والتنفيذ للأوامر الربانية والتوجيهات الإيمانية , وبالتضحية والبذل والعطاء .
وشكوانا جميعا من ندرة من يستحقون ذلك نابعة من ذلك التوصيف , إذ ظهرت لنا خلوف تدعي استحقاقها لتلك المقامات , وهي في ساحة العمل فارغة الجراب , ضعيفة الاثر , تبرق أعينها مع بريق الزخارف , وتضطرب مبادئها مع اضطراب الظروف ..!
نحن جميعا نبحث عن العالم الذي يسبق عمله علمه , ويسبق فعله قوله , معرض عن المتاع , مقبل نحو الآخرة , معلق قلبه بربه , معطاء في باب الفضائل يصعب إدراكه , ومسارع في باب الكرائم يتعب سباقه .
ولو اردت سردا لمواقف تعليمية ومنهجية في ذلك الباب لأعيتني الكتابة , لكن بالمثال يتضح المراد :
فعن أنس بن مالك – رضي الله عنه قال : كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وكان أجود الناس وكان أشجع الناس ، ولقد فزع أهل المدينة ذات ليلة فانطلق ناس قبل الصوت ، فتلقاهم رسول الله – صلى الله عليه وسلم – راجعا وقد سبقهم إلي الصوت وهو على فرس لأبي طلحة عرى في عنقه السيف وهو يقول ( لم تراعوا لم تراعوا )
وموقف آخر يوضح لنا الصورة : فهذا هو يوسف بن يحي البويطي ، تلميذ الشافعي وخليفته أمر أصحاب فتنة خلق القرآن أن يحمل إلي بغداد في أربعين رطل حديد – يقول الربيع صاحب الشافعي – ولقد رأيته على بغل وفي عنقه غل وفي رجليه قيد وبين الغل والقيد سلسلة حديد وهو يقول – إنما خلق الله الخلق بكن فإذا كانت مخلوقة فكأن مخلوقا خلق بمخلوق ، ولئن أدخلت عليه لأصدقنه – ولأموتن في حديدي هذا حتى يأتي قوم يعلمون أنه قد مات في هذا الشأن قوم في حديدهم ) طبقات الشافعية
وجاء في ترجمة الخطيب البغدادي ، أنه ( دخل عليه بعض العلوية وفي كمه دنانير فقال للخطيب فلان يسلم عليك ويقول لك اصرف هذا في بعض مهماتك ، فقال الخطيب : لا حاجة لي فيه ، وقطب وجهه ، فقال العلوي : كأنك تستقله ونفض كمه على سجادة الخطيب وطرح الدنانير عليها فقال : هذه ثلثمائة دينار ، فقام الخطيب محمرا وجهه وأخذ السجادة وصب الدنانير على الأرض وخرج من المسجد ) طبقات الشافعية 3/14
ويقول ميمون بن مهران : «لا يكونُ الرَّجُلُ تَقِيًّا حتَّى يحاسِبَ نفسَهُ محاسَبَةَ شَريكِهِ ، وحتَّى يَعْلَمَ مِن أَينَ مَلْبَسُهُ ومَطْعَمُهُ ومَشْرَبُهُ » الزهد لوكيع
وقال الماوردي: «أن يتَصفَّحَ الإنسانُ في لَيلِهِ ما صَدَرَ من أفعالِ نَهارِهِ ، فإن كان محموداً أمضاهُ وأَتبَعَهُ بما شَاكَلَهُ وضَاهاهُ ، وإن كان مَذْمُوماً استدْرَكَهُ وانتَهَى عَن عَمَلِ مِثلِهِ» أدب الدنيا والدين
قال مالك بن دينار : " رَحِمَ اللهُ عَبداً قالَ لنفسِهِ كلَّ ليلةٍ : أَلستِ صاحبةَ كَذا ؟! ألستِ صاحِبةَ كذا ؟! ثُمَّ ذَمَّها ، ثُمَّ خَطَمَها ، ثُمَّ أَلْزَمَها كِتابَ الله وَكانَ لها قائِدا ً" محاسبة النفس لابن أبي الدنيا