في أيام كثرت فيها الأقاويل , وانتشر فيها قيل وقال , وصُدق فيها الإمعات , وكُذب فيها اهل الفضل , نحتاج للتذكير بمبادئنا الأخلاقية الراقية , وبقيمنا الإيمانية السامية تجاه أقاويل الناس وإشاعاتهم وحكاويهم ..
إن هناك المئات من الصحف والآلاف من مواقع الانترنت تفتح كل صباح سيلا لا يتوقف من بث الأنباء والأخبار والحكايات والحوادث , ولئن تابعها المؤمن بكل ما فيها مصدقا لها , هام على وجهه , وتخبط في تيه مظلم .
كما أن هناك محركا أساسيا لكثير من وسائل الإعلام , يكاد أن يدفع كل كلمة فيها , هو المصلحة العائدة على من ملكها ومن أنفق عليها ..
ولنا نحن المحبون لديننا قيم تربينا عليها , ومبادىء تحكمنا في تلقي الأنباء , وتضبطنا في التعامل معها ..
فالمؤمنون قلوب طاهرة , تريد الحياة في عالم طاهر نقي , فالأصل عندهم الطهارة والصدق , وهم إنما يحذرون وينتبهون لمن خادعهم أو مكر بهم على كراهة منهم , ولكن فقط لاجتناب الضرر .
وقد علمنا ربنا سبحانه , أن نظن الخير في أنفسنا وأهلينا وإخواننا والمؤمنين من حولنا , وأن نجعل هذا الظن الحسن هو محركنا ودافعنا أثناء تعاملنا وخلطتنا , بل ونهى عن الظن السوء " ياأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن ".
أما إذا شاعت شائعة سلب وانتقاص تخص آحاد المؤمنين , فحسن الظن ههنا مقدم ولاشك , بل هو من صفات أهل الإيمان , إذ يقول سبحانه : " لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ ".
قال ابن عاشور في تفسيره: " فيه تنبيه على أنَّ حقَّ المؤمن إذا سمع قَالَةً في مؤمن، أن يبني الأمر فيها على الظَّن لا على الشَّك، ثم ينظر في قرائن الأحوال وصلاحية المقام، فإذا نسب سوء إلى من عرف بالخير، ظنَّ أن ذلك إفك وبهتان، حتى يتضح البرهان. وفيه تعريض بأنَّ ظنَّ السُّوء الذي وقع هو من خصال النِّفاق، التي سرت لبعض المؤمنين عن غرورٍ وقلة بَصارَة، فكفى بذلك تشنيعًا له" .
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : " إيَّاكم والظَّن، فإنَّ الظَّن أكذب الحديث، ولا تحسَّسوا، ولا تجسَّسوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانًا " أخرجه أحمد.
قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: " من علم من أخيه مروءة جميلة فلا يسمعنَّ فيه مقالات الرِّجال، ومن حَسُنت علانيته فنحن لسريرته أرجى".
فعلي رضي الله عنه , يقدم ما علمته من أخيك من خير وفضيلة طوال عشرتك معه , ومدة معرفتك إياه , فلا تسىء به الظن أنه تغير إلى السىء إلا بدليل ثابت , ولئن كانت علانية المرء صالحة , فنحن نرجو أن تكون سريرته أفضل .
وقال سعيد بن المسيَّب : " كتب إليَّ بعض إخواني من أصحاب رسول الله : أن ضع أمر أخيك على أحسنه، ما لم يأتك ما يغلبك، ولا تظنَّن بكلمة خرجت من امرئ مسلم شرًّا، وأنت تجد لها في الخير محملًا ".
وابن المسيب ههنا يؤكد على قاعدة علي رضي الله عنه , فالأصل أن نضع قيمة المؤمن على أفضل ما يكون , مالم يثبت بالدليل الساطع صدق الإشاعة السلبية عنه , بل يجب أن نبحث عن محامل الخير لكل كلمة خرجت من أهل الإيمان مادام لها محمل , حتى لو كان ذلك المحمل بعيدا ..
قال النَّووي: " المراد: النَّهي عن ظنِّ السَّوء، قال الخطَّابي: هو تحقيق الظَّن وتصديقه دون ما يهجس في النَّفس، فإنَّ ذلك لا يُمْلَك" شرح مسلم .
قال الغزالي: (أي: لا يحقِّقه في نفسه بعقد ولا فعل، لا في القلب ولا في الجوارح، أما في القلب فبتغيره إلى النُّفرة والكراهة، وأما في الجوارح فبالعمل بموجبه. والشَّيطان قد يقرِّر على القلب بأدنى مَخِيلة مَسَاءة النَّاس، ويلقي إليه أنَّ هذا من فطنتك، وسرعة فهمك وذكائك، وأنَّ المؤمن ينظر بنور الله تعالى، وهو على التَّحقيق ناظر بغرور الشَّيطان وظلمته) الإحياء.
وقال : " فلا يُستباح ظنُّ السُّوء إلا بما يُستباح به المال، وهو نفس مشاهدته أو بيِّنةٍ عادلةٍ. فإذا لم يكن كذلك، وخطر لك وسواس سوء الظَّن، فينبغي أن تدفعه عن نفسك، وتقرِّر عليها أنَّ حاله عندك مستور كما كان، وأنَّ ما رأيته منه يحتمل الخير والشَّر. فإنْ قلت: فبماذا يُعرف عقد الظَّن والشُّكوك تختلج، والنَّفس تحدِّث؟ فتقول: أمارة عقد سوء الظَّن أن يتغيَّر القلب معه عما كان، فينفِر عنه نُفُورًا ما، ويستثقله، ويفتر عن مراعاته، وتفقُّده وإكرامه، والاغتمام بسببه. فهذه أمارات عقد الظَّن وتحقيقه" الإحياء.
حتى فيما يخص المجتمع المسلم , إذا انتشرت فيه إشاعة سلبية كانت أو إيجابية , فلابد هنا من كتمها , وعدم المساعدة في نشرها , حتى تعرض على أهل العلم والفهم , فيدققون في صحتها ويتأكدون من معانيها , ويقيمون بحكمة وروية أثرها , يقول سبحانه :" وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا " النساء ..
قال القرطبي في تفسيره : " أي لم يحدثوا به ولم يفشوه حتى يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي يحدث به ويفشيه . أو أولوا الأمر وهم أهل العلم والفقه " .
إننا مطالبون كذلك بالتثبت من كل قول سلبي ينتشر في حق مؤمن قبل نقله أو حتى الحديث عنه , خصوصا إذا كان مصدره متهما ,
يقول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ " , وقرأ حمزة والكسائي (فتثبتوا) , والتثبت والتبين هما بمعنى واحد، وهذا أمر من الله عز وجل للإنسان أن يتبين. أي يطلب البيان ويتثبت أي لا يتكلم إلا بأمر ثابت واضح لا إشكال فيه، وخاصة إن كان الذي جاء بالخبر فاسقاً، ثم علل ذلك بقوله: أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً , أي لئلا تصيبوا قوماً بجهالة، فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ .
قال الشيخ السعدي : "من الغلط الفاحش الخَطِر؛ قبول قول الناس بعضِهم في بعض، ثم يبني عليه السامع حُبًّا وبغضًا ومدحًا وذمًا، فكم حصل بهذا الغلط أمور صار عاقبتها الندامة، وكم أشاع الناس عن الناس أمورًا لا حقائق لها بالكلية، أو لها بعض الحقيقة فنمِّيَت بالكذب والزور، وخصوصًا مَن عُرفوا بعدم المبالاة بالنقل، أو عرف منهم الهوى، فالواجب على العاقل التثبت والتحرز وعدم التسرّع، وبهذا يُعرف دين العبد ورزانته وعقله"
إن هذا الموقف النظيف الطاهر من تلقي أنباء السوء , وأخبار الشر والانتقاص , وإشاعات الضرر عن المؤمنين , بقلوب سليمة , وسلوك منضبط رصين , لهو السلوك الحضاري الإيماني الأمثل , الذي يساعد على درء الشيطان وجنده , ودعم مجتمع محب متماسك ودود .