إن الحياة والآخرة في مفهوم الإسلام طريق واحد , فالدنيا مزرعة الآخرة , والبشر يحصدون في آخرتهم ما زرعوا في دنياهم من أعمالهم التي سبقوا بها , فأحسنوا فيها أو أساؤوا ..
كما أن الله سبحانه قد جعل لكل شىء أجلا وميقاتا , فإذا جاء الأجل فلا يستأخر ولا يستقدم .
وهو سبحانه مالك الملك , فالأرض أرضه والعباد عباده , والخلق خلقه , وكلهم يحيون ويموتون بتقديره وأمره .
من هذا المفهوم يجب أن نتلقى أخبار موت الأعزاء والأحباب والمقربين , ويجب أن نقابل مصيبة الموت , فالعاقل الحكيم من تفهم تلك المعاني وسار في ظلها بينما هو تصيبه مصيبة الموت , وقليل العلم , ضيق الآفاق , قليل الحكمة , من ابتعد عنها وراح يتوه في مسارات الهم المظلمة .
فالله سبحانه سمى حادثة الموت " مصيبة الموت " , لما فيها من زلزلة تحدث للإنسان جراء فقد حبيبه , وعزيزه , وإلفه , حتى إنه لا يكاد – لاول وهلة يتصور إمكانية مزاولة الحياة بعده .
لكن الإسلام وصف لنا منهجا نتلقى به تلك المصيبة , وهو منهج بالغ الحكمة والصوابية عميق الأثر , يمَكن المؤمنَ من أن يُقوم نفسه , ويحتمل مصيبته , ويَقوم من جديد ليكمل رسالته .
فالعقيدة الإيمانية هي الاساس الذي ينبني عليه الموقف من حادثة الموت , ونصيحة الإسلام المنهجية في التعامل مع الموت يستفيد منها أكثر ما يستفيد أهل الإيمان والصلاح , لا أهل الغفلة والهوى , فليس كل منصوح بها مطبق لها , إذ تحتاج عقيدة ثابتة في الله سبحانه مالك الملك . من أجل ذلك فمن أراد أن يبلغ أحدا عن تلك المنهجية شيئا فليبدأ معه بتثبيت معاني الاعتقاد أولا .
ثم إن الإسلام يذكر صاحب الحادثة بالأصل الذي يجب عليه أن يرجع إليه فورا عند موت أحبابه , وهوحتمية الموت على الخلق جميعا , وأن الخلق كلهم لامحالة راجعون إلى ربهم , مفارقون لدنياهم إلى آخرتهم , وأن ذلك قد يعجل للبعض وقد يؤخر قليلا لآخرين , وأن هذا التأخير قليل جدا , فعما قليل يجتمع الحلق جميعا عند ربهم .
هذا المعنى الأخير أيضا اساس في تلقي حادثة الموت , بل إنه هو الذي ذكر به أبو بكر رضي الله عنه عمر رضي الله عنه عند ذهوله من صدمة خبر موت الرسول صلى الله عليه وسلم فرفع صوته بقوله تعالى : " وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم , ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا , وسيجزي الله الشاكرين " .
وهو ذاته المعنى الذي أكده صلى الله عليه وسلم على ابنته رضي الله عنها , فيروي البخاري أن ابنا لابنته زينب رضي الله عنها كان يحتضر , وأنه صلى الله عليه وسلم أرسل إليها أن :" إن لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده إلى أجل مسمى فاصبري واحتسبي " .
فالملك لله سبحانه , وهو الذي أعطى وهو الذي يأخذ , وكل شىء عنده بميعاد وميقات .
كذلك نجد المرأة الصالحة أم سليم رضي الله عنها توصل لزوجها أبي طلحة نفس الفكرة بصورة مبسطة جدا لما مات ابنه الذي يحبه كما أورد مسلم في صحيحه : " قالت: يا أبا طلحة أرأيت لو أن قوما أعاروا أهل بيت عارية فطلبوا عاريتهم ألهم أن يمنعوهم؟ قال: لا، قالت: فاحتسب ابنك .."
لذلك فالطريق الأمثل والأوحد في تلقي مصيبة الموت , هو الصبر , ولا خيار آخر للإنسان , فمن أعرض عن الصبر أكله الهم , وأصابته الانهيارات النفسية , وترسخ فيه الاكتئاب , وقعد عن حياته , ومن استعان بالله وصبر, قواه الله وصبره , كما في الحديث : " من تصبر صبره الله " أخرجه البخاري .
بل إن ذلك الصبر يطالب به المؤمنون من أول لحظة عند وصول نبأ الموت , كما في الحديث :" إنما الصبر عند الصدمة الأولى " متفق عليه .
ويصف القرآن الكريم هذا المشهد الإيماني في تلقي المصيبة , قال سبحانه : " وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إن لله وإنا إليه راجعون , أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون " .
فهم يتلقون النبأ بالصبر , وبمفهوم عقائدي إيماني كما سبق , فكان جزاؤهم أن أعانهم الله سبحانه في صبرهم برحمته وأثنى عليهم .
ثم نبه المنهج التربوي الإسلامي ههنا إلى الرجاء الإيجابي في موقف الموت , وهو تنبيه غاية في العمق والإيجابية , ففي لحظة الموت التي يراها المرء سلبية بكل معنى , يعلمنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نرجو من الله خيرا , نحتسب لله سبحانه , نسأله أن يعطينا وينعم علينا , ويخلفنا .
فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ": ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول : " إنا لله وإنا إليه راجعون اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيرا منها ، إلا أجره الله من مصيبته ، وأخلف له خيرا منها "أخرجه مسلم .
بل إن ذلك ممتد , فقد أخرج أحمد قول النبي صلى الله عليه وسلم : " ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها ، ( قال عباد : قدم عهدها) فيحدث لذلك استرجاعا ، إلا جدد الله له عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب " .
ثم إن الباب مفتوح لإيصال الصالحات لمن فارقناهم من الأحباب , ولاستمرار البر والصلة والدعاء .
وبكل حال فالدنيا سريعة الانقضاء , وعما قليل يلحق الحي بالموتى , ويجتمع الجميع في يوم حق , فلا يظنون أنهم لبثوا إلا يوما أو بعض يوم !