إن التجديد المأمول لا يتأتى إلا على عيون رجال وجهدهم , وبسواعدهم وبذلهم وعطائهم ..
وكثيرا ما نستغرب ..كيف في بلد ما أو بقعة ما لا ينتظر كثيرون التجديد على يد الموجودين من أبنائه , برغم ماهم فيه من تيسير الإمكانات المالية والتكنولوجية وبرغم سعة العيش وحرية الحياة ..
وعلى جانب آخر لماذا يأمل آخرون في مناطق أخرى ومواضع أخرى التجديد على أيدي أبنائه برغم ضيق الحياة من حولهم ؟
كما أننا قد ننكر من أنفسنا استشعارها عدم إمكانية التجديد من بعض الدعاة برغم جمعهم من العلم أطرافا كثيرة وحفظهم من المتون صفحات عديدة وحصولهم من الشهادات على درجات عالية , في حين تأمل نفوسنا التجديد والإصلاح وتتوقعه من بعض الذين هم اقل جمعا للشهادات وأقل شهرة وخبرة !
لماذا قد يثق الناس ويطمحون الخير في الزاهدين من الدعاة والعلماء الراسخين , الباذلين جهدهم وعلمهم بلا ثمن ولا مقابل , الراغبين في خمول الذكر المبتعدين عن الدعاية والصخب والضوضاء , الساجدين في جوف الليل لربهم , القائمين في حياتهم على ما يقيم سترهم ويحفظ كرامتهم , بينما لايثقون في كثير ممن يملؤون السمع والبصر شهرة ومكانة ؟!
لماذا يجد الكثيرون أنفسهم مقبلين محبين مجتمعين حول بعض البسطاء في حين يجدون في أنفسهم بعدا ورفضا لآخرين ؟!
إن معنى هاما ينبغي أن نعلمه ابناءنا وأجيالنا القادمة لهو محور الفهم في شخصيات قادة التجديد الإيماني .
إنه ذلك المعنى الذي يجمع بين الفكرة والنية والعلم والجهد في منظومة واحدة ويضمهم جميعا في إطار من التجرد عن الذات والأهواء , إنها وصفة فريدة للشخصية الربانية القائدة التي يرتجي منها عالمنا أن تكون في مقدمة الصف وهي تلك التي نريد بيانها عبر كلماتنا هنا .
فالمجدد صاحب فكرة، يحيا بفكرته في كل لحظة من لحظات حياته، ينبض بها قلبه، ويتدفق بها الدم في شرايينه، تتغذى على معالمها خلايا جسده، فتصبح جوارحه أجزاء من فكرته، إنه يعيش لفكرته، ويحيا لدعوته...
المصلحون دوما هم فكرة حية، تتحرك بين الناس، وهم يستشعرون اللذة اللانهائية في نشرها وتعميمها، ويستشعرون رضا العالم كله ـ أحيائه وجماداته ـ عندما يبذلون لها ويضحون من أجلها..
انهم يتميزون بميزة أخرى، هي استصحابهم معية الله، الإله المهيمن سبحانه الذي يريد للعالم الخير والهداية والنور والطهارة.
هؤلاء الرجال، نظروا للبشرية، فلحظوا ما بها من دنس وتدنٍ وغفلة، وشعروا أنها تسير نحو حتفها المظلم... فليس ثَم في نهاية النفق ضوء !
فأرادوا تطهير الدنس وإيقاظ القلوب، والنجاة بها في قارب نوراني شفاف من بحار الكآبة الماديـة.
أرادوا أن يغرسوا في حاضر الإنسانية غرساً من نوع صادق لينبت عبر الأيام فروعاً، يُطعم منها الفقير والمحروم، ويستظل بظلها التائه والحيران، ويأمن بجانبها الخائف والجريح،.. سقوها بعرقهم، ودموعهم، وأحيانا بدمائهم.... ولفظات أرواحهم..
ومن هنا بدأت الدعوات بفكرة واحدة يحملها رجل واحد فقط، تمثلت فيه تلك الفكرة، فراح يدعو إليها الواحد بعد الواحد، ويضم الجمع بعد الجمع، ويضع الخطوط والوسائل، ويبث روح الأمل في الجميع كلما استشعروا وعورة الطريق.
هكذا خرج الحواريون أتباع الأنبياء، وهكذا خرج العالمون والحكماء، فاهتزت الأرض من تحت أقدامهم - وهم الفرادى والضعفاء -، وخافتهم إمبراطوريات الأرض المتجبرة - وهم بغير سلاح يُرى -، وناصبهم العداء الأفراد والجماعات الحريصة على الحياة الراكدة الآسنة، والمستمتعون في الشهوات الكدرة.
لقد رأوا إن الارتقاء المادي وحده لا يُعد حضارة في ذاته، وان الحضارة الحقيقية هي التي حتما تنبني على ارتقاء النفوس، والسمو بالبشر، وتطهيرهم من الدنس، والخطيئة، وإصلاح قلوبهم ونفوسهم، قبل أن تقوم على إصلاح المادة والسعي لتقدمها التكنولوجي وإلا فما قيمة مادة بلا حياة؟!
ما أبأس العالم عندما يهتم بالجماد و يهمل الإنسان، عندما يرعى المادة وينسى الروح، إنه عالم"الربوتات"– الإنسان الآلي- إذن، آخر التقدم التقني، ومنتهى الاغتراب الروحي..
إن رجل الحضارة الحقيقي، ليس إذن هو رجل التقنية والاختراعات فحسب، ولا هو رجل التكنولوجيا والمعلومات فحسب، بل إنه ذاك الرجل الذي أحيا النفوس العالمة، وروى القلوب المتحضرة، وقضى القوانين التي تمنع شريعة الغاب، وأمر أن تستخدم التكنولوجيا في هداية البشر....
إنه الرجل الذي علم النفوس - أثناء سعيها للتقدم - أن تجعل فكرها موصولاً بالله، وتجعل هدفها ساميا نقيا لرقي بني الإنسان، فهي تهدي كل اختراع لخيرية الإنسانية، وهي ترجو ثواب الله، والرضا من الله، إذ هو خالقها ومقدر حياتها ومماتها، ومعطيها القدرة على التطور والإبداع.
نحن جميعا بحاجة إلى استشعار هذا المعنى من العبودية ، بينما نحن في دوامة الحياة الدوارة، وبينما نخطو خطوات الحياة الملغومة، بحاجة أن نستشعر معنى أن نكون عبيدا لله..
في لحظات المرض، بينما يستبد بنا الضعف وتُنهك منا القوى، ولا نقوى على أن نسقي أنفسنا شربة ماء.. نستشعر حينها بحاجتنا أن نكون عبيدا لله..
في لحظات الوحدة، وعندما يتخلى عنا الأهل والأصدقاء، وتستوحش بنا المساكن والطرقات، نستشعر بحاجتنا لعبودية الله..
حتى في لحظات الفرح والسعادة والنجاح، وعندما يحتفل بنا الجميع، لابد أن نستشعر بحاجتنا إلى عبودية الله..
إنه هو القادر على أن يشفينا عند المرض، ويؤنسنا عند الوحشة، ويديم علينا لحظات السعادة والنجاح.
إن الذين علمونا هذه المعاني لجديرين بأن يكونوا خير الناس، وأشرف الناس، وأعظم الناس، إنهم لم يعيشوا لخير لأنفسهم فقط ابدا ، بل عاشوا لخير البشرية جمعاء، وعلموا الناس عبودية الله ليعيش الناس خير حياة، علموهم عبودية الله إرضاء لله، لا سعيا وراء الدنيا .
إن الرسل والأنبياء قد رحلوا عن عالمنا بالفعل , لكنهم تركوا لنا ميراثهم الذي يحمله تلاميذهم والدعاة بدعوتهم والسائرين على منهجهم والناقلين لعلمهم وخيرهم , الصادقين مهما سلكوا والمباركين أينما كانوا , والزاهدين في علو الأرض , والباغين العلو عند الرب الرحيم سبحانه , إنهم هم الجامعون لمعنى العلم الراسخ والفكرة الصائبة والحضارة الحية والعبودية المخلصة .