كنا في السابق نستطيع تقييم أهل العلم والفهم والحكمة من مطالعة ما يكتبون , نقرأ كتبهم , أو بحوثهم , أو مقالاتهم , فنستضىء بها , ونستطيع تقدير قدرهم وقيمتهم , ومن ثم يتركون – إن هم ذهبوا عنا – ميراثا من الفضل مكتوبا , يظل مصباح خير عبر الايام ..
دارت الأيام ومعها دارت الوقائع , وتداخلت في المسالة الكتابية تداخلات سلبية إلى حد يرثى له !
صرت الآن تبذل جهدا جهيدا كي تبحث عن مقال رصين لصاحب علم أو معرفة , إذ أمامك ركام كبير من كلام مهترىء فارغ , لا يقدم نفعا , ولا يناقش علما , ولا يسير على نهج !
فلا غرابة أن تقرأ لكاتب اليوم مقالا يدافع فيه عن مبدأ , ثم هو غدا يخالفه ليكتب مدافعا عن نقيضه , ومن الطبيعي الآن أن تجد كتابا لكاتب قد جمع مقالاته المكتوبة , فإذا بك - بينما أنت تقرأ , كأنك تقرأ لحاطب ليل , فلا نهج ولا رؤية , ولا هدف , إلا المال , أومجرد النشر !
لا غرابة ايضا في هذه الايام أن تقرأ كتابا لكاتب معروف فتقول ماأحسنه , ثم تصدم بعد أيام قليله إذ تقرأ صرخات لكاتب مغمور يتهم الكاتب الشهير بأنه قد سرق كتابه , ما هو أغرب أن تجد ذلك يحدث مع من لا يمكن أن تظن فيه ذلك !
كل ما سبق وجع , وما يحدث الآن وجع آخر , فقد طغت مواقع التواصل الاجتماعي وأثرت سلبا على مسألة الكتابة الرصينة والنافعة أيما تأثير , فالآن كل الناس صاروا يرون أنفسهم حكماء , ووعاظا , وكتابا , وعلماء , فالجميع يكتب , والجميع يدلي برأيه , بل هم كذلك يضعون رؤيتهم في مقابل رؤية أهل العلم الراسخين , في حين أن كما كبيرا من المكتوب منقول أو بمعنى أوضح – مسروق من كاتبه - !
بالطبع هذه الكثرة الرهيبة من الكتابات الغثائية , أفقدت القارىء قدرا كبيرا من الثقة فيما يقرأ , فالكل قد صار سواء , بل إن كثيرا من الكتابات الفارغة صارت تحمل عناوين ساخنة , تعمل عمل المصيدة للقارىء بينما هو يتصفح !
صار الكاتب الآن يبحث عن العنوان قبل المحتوى , وصار القارىء هو الآخر ينجذب للعنوان حتى لو فرغ محتواه , حتى صرنا أمام ما يمكن أن نسميه المقالات الصفراء والكتابات الصفراء !
لا أبالغ إذا قلت أن الحال المتردية للكتابة الآن قد تُوصلنا أن تصير المواقع المنهجية والصفحات البحثية والعلمية والصحف الرصينة بل والكتب , مجرد أدوات أرشيفية , قد فقدت الحياة التفاعلية , وصار قراؤها في انحسار متزايد يوما بعد يوم , بالتالي ينحسر أثرها , وتتجمد فائدتها الإيجابية المهمة .
الكتابة الرصينة المنهجية تعاني الآن أشد معاناة , ويعاني أصحابها , وقد يرون أنفسهم غرباء , يستغربهم القراء , وقد يتعرضون للسخرية في بعض الأحيان , تماما كما كان المتحدث باللغة العربية الفصحى يتعرض للسخرية في مصر والمغرب وكثير من البلاد عبر عقود مضت ولا يزال أثرها !
إننا بحاجة أن نعيد للكتابة المنهجية قدرها وقيمتها , وأن نثبت أمام هذا الطوفان الشديد من الغثاء والمصائد والكتابات الصفراء ... وللحديث بقية