هل نسافر ؟!
12 شوال 1436
د. خالد رُوشه

يكثر الحوار المباشر وعلى مواقع التواصل الاجتماعي دعوات للفرار من الاوطان تارة , و للسفر المجرد من الأهداف تارة , وأخري مضادة لذلك تنتقد تلك الرؤى ..

 

 

وهذا الحوار ليس حديث عهد بالناس , بل هو قديم قدم السفر والتغرب ..

 

فهذا هو الشافعي رحمه الله يمتدح السفر , ويرد عليه أبو بكر الطرطوشي في حوار نادر ..

 

قال الشافعي :

 

تغرب عن الاوطان في طلب العلا *** وسافر ففي الاسفار خمس فوائد

تفريج هم واكتساب معيشة *** وعلم وآداب وصحــــــــبة ماجد

 

 

ورد الطرطوشي قائلا :

 

تخلف عن الاسفار ان كنت طالبا *** نجاة ففي الاسفار سبع عوائق

تنكر اخوان وفقد أحبـــة *** وتشتيت اموال وخيفة سارق

وكثرة ايحاش وقلة مــؤنس *** وأعظمها ياصاح سكنى الفنادق

فان قيل في الاسفار كسب معيشة*** وعلم وآداب وصحبة فائـق

فقل ذاك دهر تقادم عهـده *** واعقبه دهر كثير العوائــ

 

فالاوطان محببة لأصحابها , ففيها صحبتهم , و فيها رحمهم , والأقرباء , والأصدقاء , وعلى ترابها تربوا , و بين جنباتها ذكرياتهم التى مرت بهم  فصحبوها عبر سنى حياتهم .

 

قال الغزالي: "والبشر يألَفُون أرضَهم على ما بها، ولو كانت قفرًا مستوحَشًا، وحبُّ الوطن غريزةٌ متأصِّلة في النفوس، تجعل الإنسانَ يستريح إلى البقاء فيه، ويحنُّ إليه إذا غاب عنه، ويدافع عنه إذا هُوجِم، ويَغضب له إذا انتقص".

 

 

و قال الذهبي متحدثا عن محبوبات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "وكان يحبُّ عائشةَ، ويحبُّ أَبَاهَا، ويحبُّ أسامةَ، ويحب سبطَيْه، ويحب الحلواء والعسل، ويحب جبل أُحُدٍ، ويحب وطنه".

 

 

ولما وصل المدينة كان يقول صلى الله عليه وسلم :" اللهم حبِّبْ إلينا المدينةَ كحُبِّنا مكةَ أو أشدَّ " رواه البخاري ومسلم.

 

 

وبالطبع معلوم مكانة مكة والمدينة الدينية والشرعية , فليس الأمر ههنا مجرد مشاعر نفسية فحسب .

يعز على المرء دوما فراق وطنه و يصعب عليه عاده البعد عنه ..

 

لكن هناك رؤي و محددات قد تؤطر فكره السفر خارج الاوطان فتجعلها فى الجانب الايجابي أو السلبي ..

 

 

و قد علمنا الاسلام أن الاسلام ذاته وطن , و أن الامة الاسلامية كلها هي وطن كبير لكل مسلم , فلا عصبية ولا انفصام عن الجسد الكبير , فلكأنما هو جسده اذا اشتكى منه عضو تداعى له سائره بالحمي و السهر .

 

 

و الوطن محددات مجموعة لا تنفصل , ولا يكتفى بأحدها عن البقية ..

 

 

فهو حيث الطاعة , والعبودية , والبعد عن الآثام , وحيث علو شريعة الله , وتعظيم واحترام شعائره  .

 

 

وهو حيثما يجد المرء قلبه , وأحبابه , ورحمه , و ترتاح نفسه , و يهدأ باله , و تستقر مخيلته التى يمكنها ان تستعيد اجمل ذكرياته .

 

 

وحيث وجد زرقا حسنا طيبا مباركا فيه , حلالا يصون العرض , و يستر النفس , و يكفى الجسد , و يكفي من يعول .

 

 

وحيث الامان المستقبلى على مستوى الاداء الواقعى فى العمل و الايجابية

 

 

و هو الموضع الذى يمكن فيه الانجاز , و يستطيع فيه المرء ان يحقق آماله الصالحة الطموحة .

 

 

و هو حيث أمكن التعلم , والتطور العلمى , و النبوغ الابداعي , و الارتقاء الانتاجي .. فلا السلبية , ولا الفشل , ولا الجهل ..

 

 

وحيث لا ضرر ولا ضرار , ولا أذى , ولا سوء , ولا شرور ..

 

ولاشك أن كل تلك المحددات نسبية خاضعة للتقدير بين الحكماء والعلماء .

 

 

من هنا و غيره جاءت فكره الاسفار عند غالب العلماء , و النبغاء , و الكبراء , و ساده العالم علما و عملا وإبداعا , فلكل واحد منهم مع السفر قصه يبحث فيه عن اكمالها , حتى قال بعضهم : " من لم تكن له رحله فليس له فى الحياة رحلة "

 

 

الا أن للسفر عند البعض مثالب و مناقص و سلبيات يجب ايضا الا نغفلها ..

 

 

فمخطىء من هجر موطنه وسافر لمجرد السفر بلا هدف ولا امل ولا سبب .

 

و مخطىء من سافر بلا رجعة , اذ وطنه يدعوه دوما للعودة منجزا مصلحا مؤثرا .

 

 

ومخطىء من سافر و ترك من يعول , فجل المشكلات الاسرية نابعة من مثال ذلك من الاهمال او ضياع الحقوق أو عدم الرعاية او غيره .

 

 

و مخطىء من سافر ليجمع المال , غافلا عن مبادئه , و قيمه التربوية التى يجب ان يرعى على اساسها أسرته و أبناءه .

 

 

و مخطىء من جعل السفر دعوه له يدعو اليها كل من يعرف , و يجعلها مبدأ من مبادئ رؤاه , و انما السفر لابد ان يكون لحاجه و سبب و رؤية كما سبق ..