إنها خير لحظات الحياة , وأروع الدقائق التي يمكن أن تمر على المؤمن , بينما ياتي ربه محملا بالهموم والآلام , ضعيفا كسيرا , وجلا مشفقا , راجيا خائفا , فيسجد بين يديه راغبا , ويرفع إليه شكواه , ويمد يديه للسماء مناجيا ربه الرحيم , أن : يا من تسمع شكواي وتعرف همومي , ولايخفى عليك شىء من أمري , فرج كربتي وارزقني السعادة والهدى ..
إنه باب لايغلق , وخزائن لاتنضب , ورحمة حوت الدنيا والآخرة , وفضل لاينقطع , ليس بيننا وبينه إلا أن نتدثر بدثار الإخلاص لله سبحانه , ونملأ قلوبنا ثقة به سبحانه , وتوكلا عليه سبحانه .
لكن تلك اللحظات الرائعات , إنما تحتاج القلب السليم , المخبت إلى ربه سبحانه , العائد إليه إنابة وتوبة ورغبة , كما تحتاج عقيدة صافية راسخة .
وأنت إذا سألت مناجيا عن صفة المناجاة , لاحتار في الإجابة عليك , إذ إنها لحظات إيمانية تجل عن الوصف , وتسمو عن التعبير , إذ يختلي العبد بربه , يعلوه الخشوع , وتملؤه المحبة , فيبث شكواه , ويدعوه ويرجوه باسمائه الحسنى وصفاته العلى , وهو يعلم أن ربه سبحانه يراه ويسمع نجواه , وأنه سبحانه يستجيب الدعوات ويقضي الحاجات ويفرج الكربات .
وفيمن يكون الأمل إن لم يكن في الله؟ وممن نطلب الرجاء إن لم نطلبه من الله؟ وهو صاحب الأنعم المتتالية الكثيرة, وصاحب الجود الذي لا يفنى, وصاحب الكرم الذي لا ينقطع, فهو الأمل إذا انقطعت الآمال, بل لا أمل أبدًا إلا فيه سبحانه, فهو الأمل الأوحد الذي يُرتجى, فتصلح معه الدنيا والآخرة ويصلح معه الظاهر والباطن, ويصلح معه البعيد والقريب.
واقرأ هذا الحديث القدسي الذي يشع أملاً في الله ورجاءً ويدعو إلى المناجاة الصالحة , (يا ابن آدم: إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك ما كان منك ولا أبالي, يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا, لأتيتك بقرابها مغفرة...)
والأمل في الله يكسب المناجاة لذة ومعنى خاصا والرجاء فيه يَقْوى في القلب بحسب المحبة التي في القلب لله, فأرجى ما يكون المحب لحبيبه أحب ما يكون له, فهو يرجوه قبل لقائه والوصول إليه, فإذا لقيه اشتد رجاؤه له, لما يحصل له به من حياة روحه ونعيم قلبه من ألطاف محبوبه وبره والإقبال عليه
ورجاء الله والأمل فيه سبحانه لا غنى للمؤمن عنه أبدًا, فالمؤمن الصالح يدور بين ذنب يرجو غفرانه, وعيب يرجو ستره وإصلاحه, وعمل يرجو قبوله, ومنـزلة عند الله يرجو الوصول إليها, فلا غنى له أبدًا عن رجاء الله
والعبد المؤمن الصالح لا ينفرد الرجاء وحده في قلبه, ولكنه يقترن بالخوف والرهبة, قال سبحانه: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ}
ويظل رجاء المؤمن يقوى في ربه ورغبته تتصاعد وتزداد فيما عنده، حتى لا يترك مجهودًا يقدر عليه إلا بذله, ولا يدع لهمته في لحظة فتورًا ولا خمولاً, بل يظل يبذل ويعطي كل ما عنده ابتغاء وجه ربه عز وجل وهو خير مأمول.