لاشك أن أفضل جهد هو الذي يبذل في سبيل مرضات الله سبحانه وفي محباته , ولاشك أن خير هذه الحياة بأسرها هي أوقات الطاعات وعمل الصالحات , قال سبحانه " والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير مردا " .
لكن قد تدعو حالة البعض في بعض الاحيان إلى البحث عن الأعمال الشاقة المجهدة , بحثا عن الثواب والأجر , وهو أمر حسن من حيث النية والقصد , لكنه قد يكون خطا من حيث التقييم الشرعي , وخطأ من حيث القصد والمآل , وخطأ من حيث المصالح والمفاسد , قال شيخ الإسلام ابن تيمية : " قول بعض الناس : الثواب على قدر المشقة ليس بمستقيم على الإطلاق ، كما يستدل به طوائف على أنواع من الرهبانيات والعبادات المبتدعة ، التي لم يشرعها الله ورسوله " الفتاوى
نحن متفقون ولاشك أن الأعمال التي هي في اصلها تحتاج الى جهد ونصب وتعب – كالحج ومثاله – هي مطلوبة بتعبها وجهدها , وهي فاضلة كما هي , إذ الجهد ليس مقصودا بذاته فيها , قال شيخ الإسلام " وقد يكثر الثواب على قدر المشقة والتعب، لا لأن التعب والمشقة مقصود من العمل، لكن؛ لأن العمل مستلزم للمشقة والتعب، هذا في شرعنا الذي رفعت عنا فيه الآصار والأغلال، ولم يجعل علينا فيه حرج، ولا أريد بنا فيه العسر، وأما في شرع من قبلنا، فقد تكون المشقة مطلوبة منهم " الفتاوى.
وكذلك الأعمال التي تحتاج لجهد ومشقة لتتم , كصالحات الأعمال كما فيما يخص تفريج كرب المكروبين , ومساعدة المحتاجين , وغيرها , هي ايضا مرغوب فيها , مدعو إليها , قال شيخ الإسلام : " فأما كونه مشقًا، فليس هو سببًا لفضل العمل ورجحانه، ولكن قد يكون العمل الفاضل مشقًا، ففضله لمعنى غير مشقته، والصبر عليه مع المشقة يزيد ثوابه وأجره، فيزداد الثواب بالمشقة " وانظر الى قوله صلى الله عليه وسلم "الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة، والذي يقرؤه ويتتعتع فيه، وهو عليه شاق له أجران".
ولست في حاجة للقول أن العمل يجب أن يكون تبعا لسنة النبي صلى الله عليه وسلم , وسنته صلى الله عليه وسلم علمتنا أن العمل لكي يكون فاضلا يجب أن يكون نافعا غير ضار , وحتى لو كان نافعا فيجب ألا يترتب عليه ضر أكبر من نفعه , وأن المقاصد معتبرة في الأفعال , وأن المآلات معتبرة في النظر للعمل ونتاجه .
اقول هذا تعلقا بما يخض الأعمال التي يبحث فيها المؤمنون – من الدعاة والعلماء وغيرهم - , والأعمال التي ينبغي أن تعتبر فيها , وكذلك الأعمال التي ينبغي أن تكون نصب عين الدعاة وفي بؤرة اهتماماتهم .
وكذلك هي دعوة إلى تقييم الأعمال التي تدعو اليها الحالة العاطفية والنفسية , وربما الحماسية في بعض الأحيان , بشكل علمي شرعي مدروس .
إننا نحتاج جميعا إلى أن ننظم جهودنا , بحيث أن نصل لأفضل الآداء بما استطعنا من مجهود مناسب , كما تحتاج الدعوة الإسلامية لاستغلال طاقات أبنائها , والاستفادة من أقل مجهود بأكبر فائدة .
وانظر الى النبي صلى الله عليه وسلم إذ يُقوم العمل , ويوجه المؤمنين نحو مفهومه : " إن هذا الدين يسر , ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه , فسددوا وقاربوا , واستعبنوا بالغدوة والروحة وشىء من الدلجة " البخاري .
وانظر الى قوله تعالى : " ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم , ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا " .
وكيف أن الله سبحانه يبين للناس أن العمل المطلوب شرعا هو الأفضل والأخير , حتى لو كان غيره هو الأشق .
ومخطئون ولاشك هم الذين يُذهبون جهدهم بلا نفع , ومخطئون ايضا هم الذين يبذلون الجهود الكبيرة في الأعمال بينما هم يستطيعون أن ينفقوا جهودا اقل في أعمال أفضل وأنفع لأنفسهم وأمتهم , بحجة أن نياتهم حسنة وأنهم يريدون الثواب , قال الشاطبي – : " إذا كان قصد المكلف إيقاع المشقة فقد خالف قصد الشارع من حيث إن الشارع لا يقصد بالتكليف نفس المشقة ، وكل قصد يخالف قصد الشارع باطل ، فالقصد إلى المشقة باطل ، فهو إذاً من قبيل ما ينهى عنه ، وما ينهى عنه لا ثواب فيه ، بل فيه الإثم إن ارتفع النهي إلى درجة التحريم ، فطلب الأجر بقصد الدخول في المشقة قصد مناقض " الموافقات
وقال أيضا : " ونهيه عن التشديد – أي النبي عليه الصلاة والسلام – شهير في الشريعة ، بحيث صار أصلاً قطعياً ، فإذا لم يكن من قصد الشارع التشديد على النفس ، كان قصد المكلف إليه مضاداً لما قصد الشارع من التخفيف المعلوم المقطوع به ، فإذا خالف قصده قصد الشارع بطل ولم يصح ، هذا واضح وبالله التوفيق " الموافقات
نحن بحاجة إلى ترشيد الجهود , إذ ليست المشقة ممدوحة في الأعمال على كل حال . بل في الأمر تفصيل شرعي وبيان تطبيقي , وكلما استطاعت الدعوات أن تصل للجودة الكاملة بأعمال مقدورة وجهود مستطاعة كلما صعدت في المستوى المرجو .
ونحن بحاجة كبيرة إلى تقويم الأداء لأعمالنا الدعوية كل فترة زمنية , إذ التقويم يوصلنا إلى ذلك المرجو من الجودة .
وأهل العلم أوضحوا لنا أن أفضل الأعمال ما كان في مكانه وبشرطه , وبرغم اختلافهم في تدرج الثواب بقدر المشقة بقدر اتفاقهم على أنه لاغنى عن الإخلاص والمتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم .
فمنهم من يعتبر المشقة رافعة في قيمة الأعمال , كمثال القرافي والسيوطي , ويستدلون بمثل قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها : «أجرك على قدر نصبك» رواه الحاكم وصححه الألباني .
وكذلك بحديث جابر رضي الله عنه قال: كانت ديارنا نائية عن المســـجد، فأردنا أن نبيــع بيوتنا فنقترب مــن المســجد فنهانا رسـول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فقال: «إن لكم بكل خطوة درجة»أخرجه مسلم .
ومنهم من قال إن الأجـر علـى قـدر المنفـعة القادمة من العمل وبه قال العـز بـن عبد السلام وابن تيمية والشاطبي وغيرهم , وقال شيخ الإسلام ابن تيمية : «ومما ينبغي أن يعرف أن الله ليس رضاه أو محبته في مجرد عذاب النفس وحملها على المشاق حتى يكون العمل كلما كان أشق كان أفضل »مجموع الفتاوي .
وقال الشاطبي : «ليس للمكلف أن يقصد المشقة في التكليف نظـراً إلى عظـم أجـــرها؛ فإن المقاصــد معتبرة في التصــرفات فلا يصلح منها إلا ما وافق الشارع. "
وقال ابن حجر معقباً على النووي في قوله: (ظاهر الحديث «أجرك على قدر نصبك» أن الثواب والفضل في العبادة يكثر بكثرة النصب والنفقة) قال : «وهو كما قال، لكن ليس ذلك بمطرد، فقد يكون بعض العبادة أخف من بعض وهو أكثر فضلاً وثواباً بالنسبة إلى الزمان كقيام ليلة القدر بالنسبة لقيام ليالٍ من رمضان غيرها، وبالنسبة للمكان كصلاة ركعتين في المسجد الحرام بالنسبة لصلاة ركعتين في غيره، » فتح الباري .
واستدلوا بما روي عن عقبة بن عامر أنه قال: نَذَرت أختي أن تمشي إلى بيت الله حافية، فقال - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله لغني عن نذرها، مُرها فلتركب» مسلم .
وبحديث جويرية رضي الله عنها في تسبيحها بالحصى أو النوى وقد دخل صلى الله عليه وسلم عليها ضحى، ثم دخل عليها عشية، فوجدها على تلك الحـال، فقـال لها: «لقـد قلـت بعـدك أربـع كلمات ثلاث مـرات، لو وزنت بما قلتِ منذ اليوم لرجحت»رواه مسلم .
والحديث السابق : «إن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه؛ فسددوا وقاربوا وأبشروا، واستعينوا بالغدوة والروحة وشيء من الدلجة، والقصد القصد تبلغوا»البخاري , وبما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً قائماً في الشمس، فقال: «ما هـذا؟ ». قالــوا: هـذا أبو إســرائيل، نذر أن يقوم في الشمس ولا يستظل ولا يتكلم، ويصوم. فقال - صلى الله عليه وسلم -: «مروه فليجلس وليتكلم وليتم صومه»أخرجه البخاري .
قال الزركشي : " وقد يفضل العملُ القليلُ على الكثير في صور : منها : قصر الصلاة أفضل من الإتمام للمسافر , ومنها : الصلاة مرة في الجماعة أفضل من فعلها وحده خمسا وعشرين مرة , ومنها : تخفيف ركعتي الفجر أفضل من تطويلهما , ومنها : التصدق بالأضحية بعد أكل لقم منها أفضل من التصدق بجميعها . - " المنثور في القواعد " -
وقال الشيخ ابن عثيمين : " كذلك أيضاً من التشديد في العبادة ، أن يشدد الإنسان على نفسه في الصلاة أو في الصوم أو في غير ذلك مما يسره الله عليه ، فإنه إذا شدد على نفسه فيما يسره الله فهو هالك " "شرح رياض الصالحين" (1/416-418) –
ويبدو جليا أهمية نوعية العمل وقيمته وقدره في حديث الصحيح "ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها" مسلم .
وقد بين العلماء أن مثال ذلك مثال من حج ماشياً ورفض الركوب ؛ فإن ذلك فيه جهد ومشقة تستلزم منه مضار كفقدان الخشوع ، بينما لو ركب واستعمل هذه الوسائل لأغنته عن الحاجة إلى الراحة الكثيرة .
يستثنى من ذلك ما ذكره العز بن عبد السلام: «إذا اتحد الفعلان في الشرف والشرائط والسنن والأركان، وكان أحدهما شاقاً فقد استويا في أجرهما لتساويهما في جميع الوظائف، وانفرد أحدهما بتحمل المشقة لأجل الله - سبحانه وتعالى-، فأثيب عليها" قواعد الأحكام .
والحقيقة أننا نحتاج إلى تلك الرؤية التي توازن بين النتائج والجهود , فإن جهودا تبذل , وأموالا تنفق لمصلحة الإسلام , لكن أثرها غير متكافىء معها بحال .