عندما يتصدر الأغرار
4 جمادى الثانية 1436
د. خالد رُوشه

مع ضعف حال الدعاة في كثير من البلاد , واغتراب كثير من معاني العلم , وندرة أهل العلم الراسخين الأثبات , انتشرت ظاهرة سلبية ذات آثار قد تصبح وخيمة , تلكم هي ظاهرة تصدر المبتدئين في مجال الدعوة والعلم .

 

فيخرجون من دائرة الدراسة والتعلم , والتدريب واكتساب الخبرة , إلى دائرة لا تلائمهم , ولا تنطبق عليهم شروطها , هي دائرة التوجيه والتعليم و وربما الفتوى !

 

لقد صار الكثير من هؤلاء يقدم على تصدر الصفوف , وتقدم دروس الدعوة والعلم , قبل الإجازة والإذن والتأهيل والتمكن والرسوخ والنضج في محضن العلم , وهذا مااسماه العلماء " داء الطلب ومكمن العطب " .

 

 

 

إن تقدم أنصاف العلماء والدعاة بين يدي صفوف الناس مؤذن بخطر داهم , بل هو من أشد السقطات خطورة على الأمة الإسلامية , إذ يوقعون المجتمعات في شرور الفوضى العلمية , والمراهقة الفكرية , والجرأة على دين الله سبحانه , وفق تصورات ضيقة لم تستضىء بنور العلم الراسخ , والفهم العميق .

 

 

المصيبة الكبرى أن هذه الظاهرة قد تبعتها ظاهرة أخرى , لا تقل عنها فتكا بالأمة , هي الاستهانة بالعلماء الربانيين الراسخين , ونسيان فضلهم , والسخرية من توجيههم , واتهامهم بالتخاذل تارة , وبعدم الصلاحية تارة , وبعدم الإلمام بالواقع تارة أخرى , وبالطبع فقد أدى ذلك لعدم رجوعهم لهؤلاء العلماء , فصارت مرجعيتهم فهمهم القاصر الذي لم يكتمل !

 

 

يقول الخطيب البغدادي :" لا يزالُ النّاسُ بخيرٍ ما كانَ عُلماؤهُم المشَايخ، ولَمْ يكن عُلماؤهُم الأَحداثَ؛ لأنَّ الشَّيخَ قَد زالتْ عنهُ مَيْعَةُ الشَّبَابِ، وَحِدّتُهُ، وَعَجَلَتُهُ، وَسَفَهُهُ، واستَصْحَب التّجرِبَةَ، والخِبْرَةَ، فَلا يدخُلُ عَليهِ في عِلْمِه الشُّبهةُ، ولا يَغْلبُ عَليهِ الهَوَى، ولا يميلُ بِه الطّمَعُ، ولا يَسْتَزلَّه الشَّيطانُ اسْتِزْلالَ الحَدَثِ، ومَعَ السِّنِّ الوَقَارِ، والجَلالَة، والهَيبَة، والحَدَثُ قَدْ يدخُلُ عَلَيهِ هَذِه الأُمُورُ، الّتي أُمِنَت عَلى الشَّيْخِ، فَإِذَا دَخلتْ عَليهِ، وَأفتى، هَلَك، وأهْلَكَ"( الفقيه والتفقه )

 

 

إن من مقتضيات الورع والتقوى أن يفهم المرء حال نفسه , ويتواضع أثناء تلقيه العلم , وينزل نفسه منزلتها الحقيقية , ويتحسس مكامن الزلل والغلط , ويحذر تحمل مسئولية الكلمة الخاطئة الخارجة عن عدم دراية .

 

 

لقد صارت قضايا خطيرة , كقضايا التحليل والتحريم , وقضايا تكفير الناس , ودمائهم , وقضايا الاختيارات الفقهية العميقة التي يترتب عليها مستقبل هذه الأمة , صارت قضايا تلوكها ألسنة كل من هب ودب , فكل غر قد قرأ كتابا يقول فيها برأيه , وكلما تغيرت حالته النفسية تراهم يغيرون الفتوى والاختيار !

 

 

لست ههنا بالطبع أتحدث عمن ينقل فتوى أهل العلم ولا حتى خلافهم في المسائل المختلفة , ولا أتحدث عن الدعاة المبتدئين الذين يبينون للناس ما يحسنون من الأمور التي درسوها جيدا وفهمومها وتدربوا عليها , إنما أتحدث عن قوم جعلوا من أنفسهم حكما على أهل العلم قاطبة , فلم يعجبهم منهم شىء سوى آراءهم الشخصية المنقوصة .

 

 

قال تعالى محذرا من الخوض في دين الله بلا علم "ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون متاع قليل ولهم عذاب أليم".

 

 

وأمر سبحانه برد الأمور المؤثرة على الأمة إلى الراسخين , قال تعالى: "وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم" .

 

 

لقد نصب البعض من هؤلاء من نفسه قاضيا يحكم في المـظالم , ويقضي بالأحكام بمجرد رأيه أو حماسته أو بمجرد رؤيته الحزبية أو السياسية , واستحل لنفسه الطعن في أهل العلم ممن لا يميلون ميله ولا يقولون بقوله ولا يتبعون رؤيته , وشحن الناس عليهم وجرأهم عليهم , فسخروا منهم !

 

 

 

قال الإمام مالك : بكى ربيعة يوما , فقيل : ما يبكيك؟ فقال قد استُفتِيَ مَن لا علم له، وظهر في الإسلام أمر عظيم، قال ربيعة: ولَبعضُ من يفتي ههنا أحق بالحبس من السُّرَّاق" ( إعلام الموقعين ) .

 

 

قال الزهري ليونس بن يزيد : " لا تكابر العلم، فإن العلم أودية، فأيها أخذت فيه قطع بك قبل أن تبلغه، ولكن خذه مع الأيام والليالي، ولا تأخذ العلم جملة، فإن من رام أخذه جملة، ذهب عنه جملة، ولكن الشيء بعد الشيء مع الأيام والليالي" جامع بيان العلم وفضله  .

 

 

 

يقول ابن عثيمين :" مما يجب الحذر منه أن يتصدر طالب العلم قبل أن يكون أهلاً للتصدر , لأنه إذا فعل ذلك كان هذا دليلاً على أمور: الأمر الأول : إعجابه بنفسه حيث تصدر فهو يرى نفسه عَلَم الأعلام , الأمر الثاني : أن ذلك يدل على عدم فقهه ومعرفته للأمور, لأنه إذا تصدر، ربما يقع في أمر لا يستطيع الخلاص منه , إذ أن الناس إذا رأوه متصدراً أوردوا عليه من المسائل ما يبين عواره , الأمر الثالث: أنه إذا تصدر قبل أن يتأهل لزمه أن يقول على الله ما لا يعلم؛ لأن الغالب أن من كان هذا قصده , أنه لا يبالي ويجيب على كل ما سٌئِلَ ويخاطر بدينه وبقوله على الله – عز وجل – بلا علم , الأمر الرابع: أن الإنسان إذا تصدر فإنه في الغالب لا يقبل الحق , لأنه يظن بسفهه أنه إذا خضع لغيره ولو كان معه الحق كان هذا دليلاً على أنه ليس بعالم "