السؤال الأهم في حياتنا .. كيف نختار ؟!
10 جمادى الأول 1436
د. خالد رُوشه

[email protected]

 

عبر متغيرات الحياة وظروفها تضعنا المواقف أمام اختيارين في أحيان كثيرة , أو ربما يكون أكثر من اختيار , سواء أكان ذلك في شأن عمل أو اثر أو علم أو في شأن حل لمشكلات أو حتى في شأن البحث عن استقرار حياة أو أمن ظروف ..

 

 

ولاشك أن أحدنا يبحث عن الخير العميم , ويميل بطبيعته الإنسانية نحو الكسب الدائم سواء في الدنيا أو الآخرة , فالصالحون يبحثون عن الكسب الصالح , وغيرهم لايبالون !

 

 

ولاشك أيضا أننا جميعا نبحث عن السعادة جاهدين , عبر سكينة وأمن وكفاية ومكانة كريمة , وحسن مآل وحال للابناء والأهل والأقربين وغير ذلك مما هو معلوم .

 

 

لكننا في اختياراتنا تلك قد تضغط علينا طبيعتنا البشرية ضغوطا مختلفة فتدفعنا نحو اختيارات نفعية مادية غير صائبة , و كثيرا ما تكون بعيدة عن رغبات القلوب الصالحة الرقيقة التقية النقية , ولا نستشعر جريرة ما فعلنا إلا بعد مرور الايام , وربما بعد انقضاء السنين , فيصيبنا الندم وتعترينا الحسرة البالغة ..!

 

 

ولو أن كل أحد منا بحث عن قلبه , وسأله عن مكان سكينته وراحته , وعن حيث يطمئن ويرضى ثم قرر أن يختاره لكان خيرا له أي خير , حتى لو كان بريقه أقل وجواذبه أخفت ..

 

 

إن هذا القرار قد يدعونا في أحيان إلى التنازل عن زينة وزخرف ومتاع , وربما مكانة وكسب , بل ربما يدفعنا ذلك القرار لتضحيات أكبر وأكبر , وربما يوجهنا نحو مشقة وتبعة ومسئولية , لأننا بحثنا عن مراد القلب المؤمن , واهتممنا بضميرنا الصالح , ورفضنا البريق الذي معه الكسب لكنه يجرنا نحو الأسفل والأدنى من شأن الدنيا ويربطنا بثقل الحياة ويمنعنا عن العلو والسمو المنوط بأهل المواقف العلية والقرارات السمية .

 

 
إن جواذب الحياة وأضواءها قد تدعونا كثيرا نحو السعي والجهد للحاق بها , حيث الكسب الذي ربما نتوقعه , والغنيمة التي ربما ننتظرها , إلا أننا وللأسف نفقد ايامنا أثناء سعينا وتنفذ منا أحلامنا الحقيقية أثناء لهاثنا , وتضيع منا قلوبنا بينما نحن نعد مكاسب الغنيمة .

 

 
إن الحياة لتفقد طعهما الصالح إذا لم يكن القلب في المكان الذي يرتاح فيه , حيث السكينة الإيمانية تصحب الإخلاص في العمل , والقناعة المباركة تحيط بالكسب مهما كان قليلا .

 

 
إنك لن تجد أتعب ممن الدنيا أكبر همه وهو حريص بجهده وقوته على جمعها فيضع نفسه وقلبه تحت تصرفها , فيفتك بقلبه ويضر بنفسه سعيا وراء زخرفها فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كانت الآخرة همه جعل الله غناه في قلبه وجمع له شمله وأتته الدنيا وهي راغمة, ومن كانت الدنيا أكبر همه جعل الله فقره بين عينيه وفرق عليه شمله ولم يأته من الدنيا إلا ما قدر له) اخرجه الترمذي

 

 

قال ابن القيم رحمه الله: "ومن أبلغ العذاب - لطالب الدنيا - تشتيت الشمل وتفريق القلب وكون الفقر نصب عيني العبد لا يفارقه, ولولا سكرة عشاق الدنيا بحبها لاستغاثوا من هذا العذاب, على أن اكثرهم لا يزال يشكو ويصرخ منه, وفي الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يقول الله تعالى: ابن آدم, تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك, وإن لم تتفرغ لعبادتي ملأت يديك شغلاً ولم أسد فقرك)

 

 
 قال رحمه الله : وهذا أيضًا من أنواع العذاب, وهو اشتغال القلب والبدن بتحمل أنكاد الدنيا ومقاساة معاداة أهلها كما قال بعض السلف: "من أحب الدنيا فليوطن نفسه على تحمل المصائب", قال: ومحب الدنيا لا ينفك من ثلاث: هم لازم, وتعب دائم, وحسرة لا تنقضي؛ وذلك أن محبها لا ينال منها شيئًا إلا طمت نفسه إلى ما فوقه, كما في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كان لابن آدم واديًا من ذهب لتمنى أن يكون له واديان, ولا يملا عين ابن آدم إلا التراب, ويتوب الله على من تاب) اغاثة اللهفان

 

 

وقد ضرب الله سبحانه مثل الحياة الدنيا فقال سبحانه: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا }

 

 
ذاك مثل الحياة الدنيا التي يتقاتل الناس عليها , فيهملون قلوبهم ويغفلون عما وراء أعمالهم إنها ماء ينزل فيختلط بنبات الأرض ويتركه هشيمًا تذروه الرياح, انها لحظات يتصارع فيها الناس ويجهدون حيث ينشغلون عن آخرتهم وتعمير منتهاهم وسكينة قلوبهم , آيات تلقي في النفس معنى الرحيل وقلة الدنيا وهوانها.

 

 
  ماء ينزل من السماء ويختلط بنبات الأرض, والنبات يصبح هشيمًا تذروه الرياح , تنتهي قصة الحياة عبر هذا الوصف القصير , وبعد ذلك تقرر الآيات بميزان العقيدة قيم الحياة التي يتعبدها الناس في الأرض والقيم الباقية التي تستحق الاهتمام والبذل والجهد والعطاء .

 

 
فالمال والبنون زينة الحياة, والإسلام لا ينهي عن المتاع بالزينة في حدود الطيبات , ولكنه يعطيهما القيمة التي تستحقها الزينة في ميزان الخلود ولا يزيد , إنهما زينة ولكنهما ليسا قيمة, فما يجوز أن يوزن بهما الناس, ولا يجوز أن يقدروا على أساسهما في الحياة, إنما القيمة الحقة للباقيات الصالحات من الأعمال والأقوال والعبادات.

 

 
وإذا كان أمل الناس عادة يتعلق بالأموال والبنين والمناصب والمكاسب والكنوز والدور والقصور والشهرة والجاه , فإن الباقيات الصالحات خير ثوابًا وخير أملاً عندما تتعلق بها القلوب, ويناط بها الرجاء ويرتقب المؤمنون نتاجها وثمارها يوم الجزاء , فعن عبيد الله بن محصن الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أصبح منكم آمنًا في سربه معافى في جسده, عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) اخرجه ابن ماجه