ليس الحديث عن الفتن الكبار التي تصيب المسلمين عامة، أو التي ذكرت في الأحاديث من علامات الساعة ، ولكن عن الفتن التي تكون نتيجة الغفلة عن مكائد الأعداء، أو الغفلة عن المنافقين أو عن الانتهازيين أصحاب المصالح الخاصة الذين يخدعون الناس بلسانهم أو ببعض أعمالهم ويخدعون الطيبين من المسلمين خاصة .
إن من يتتبع أحوال المؤسسات والتجمعات سيلاحظ أن كثيراً من الفشل أو الضعف الذي يحيط بتجمعات المسلمين أو أنشطتهم وأمورهم العامة سببه هذا الصنف من الناس الذي يتقن أساليب الخداع، والظهور بمظهر الحريص والجاد بل والمتفاني في سبيل المشروع أو المؤسسة، وهو صنف يستطيع الدخول في تجمعات ذات أهداف نبيلة وكبيرة، ومن داخل هذا التجمع يبدأ في التخطيط والعمل لأهدافه ومشاريعه الخاصة، بل يحاول تسخير المؤسسة أو التجمع لمصلحته الخاصة وبطريقة ذكية قد لا ينتبه لها أكثر الناس، وهنا يبدأ الخلل ويبدأ الاختلاف وتثار التساؤلات لماذا لاتسير الأمور كما يجب، بعض الناس لا يستطيع الاستمرار في مثل هذه الأجواء فينسحب من هذا العمل الذي هو في أصله عمل كبير ومفيد، وبعضهم يبقى على مضض، وفي النهاية يضعف العمل وتضعف الآمال المرجوة أو يفشل العمل كله .
إنه من الواضح عندما يكثر الانتهازيون يضيع المخلصون والمجاهدون في الحق ، وقد يصعب الوصول والتعرف على رفقاء الدرب القدامى الذين أسسوا وتعبوا .
كل هذا والسبب واضح وجلي وهو الغفلة عن هذه الفئة، وإن النتائج المترتبة على هذه الغفلة ليست بالأمر البسيط، فقد جرَت قلة الفراسة بالرجال وقلة المعرفة بمواطن الخلل المصائب على المسلمين قديماً وحديثاً ألم ينخدع بعض المسلمين بالحملة الدعائية ضد الخليفة الراشد عثمان بن عفان رضي الله عنه، وكان ما كان من حادث مفجع ما تزال آثاره إلى الآن، ألم ينخدع بعض الدعاة بشخصيات سياسية تبين بعد ذلك أنها بعكس ما أملوا وتصوروا .
عندما تحدث ابن خلدون عن أسباب تطرق الكذب للخبر ذكر منها الثقة بالناقلين دون تمحيص ودون رجوع لمبادئ الجرح والتعديل، وإذا كانت هذه الثقة دون تمحيص تؤدي إلى نقل الأخبار المكذوبة فإن الثقة بالانتهازي المتسلق تؤدي إلى كارثة .
لماذا يوصف أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه بانه الباب الذي يصد الفتن ويمنعها ؟ ذلك لمعرفته بالرجال، ومعرفته الدقيقة بأهل الشر ومن أين يأتي الشر، ومعرفته بالخير وأهل الخير، وهذا هو معنى كلامه : ( ينقض الإسلام عروة عروة من نشأ في الإسلام ولم يعرف الجاهلية ) قال ابن تيمية رحمه الله معلقاً على كلام أمير المؤمنين : " من عرف الشر وذاقه ثم عرف الخير وذاقه تكون معرفته بالخير ومحبته له ومعرفته بالشر وبغضه له أكمل من الذي لا يعرف إلا الخير، فقد يأتيه الشر فلا يعرف أنه شر، فإما أن يقع فيه وإما أنه لاينكره كما أنكره الذي عرفه، ولهذا كان الصحابة أعظم ايماناً وجهاداً ممن بعدهم لكمال معرفتهم بالخير والشر، وكمال محبتهم للخير وبغضهم للشر " ( الفتاوى / 10/300)
وإذا كان الله سبحانه وتعالى قد وصف لنا المنافقين في كثير من السور وصفاً وكأننا نراهم، فإن معرفة الانتهازيين المتزلفين ليس بالأمر الصعب،فالإنسان الذي يحب الجاه ويسعى للمناصب فإننا نراه يداور ويناور وسرعان ما ينكشف للناس، وكذلك الذي يحب جمع المال وهوحريص عليه، ولكن المشكلة أن أهل الخير يسكتون إما خجلاً أو لمصلحة يظنونها أولعدم إدراكهم لخطورة أمثال هؤلاء الأشخاص ووجودهم في التجمعات الإسلامية . وأما الذين يعملون في السياسة من هذا النمط فإننا نجد الواحد منهم يتذلل لهذا ويستأسد على ذاك ويقفز من فرع إلى فرع ليصل إلى أعلى الشجرة، وهو بارع في استخدام حاسة الشم عن بعد، يعلم أين يجد المال والجاه، ويدبر المكائد للآخرين ليبعدهم عن طريقه .
ألم ينكشف أمثال هؤلاء لأولي الأبصار ؟ بلى يجب أن ينكشف، ويجب أن يبعدوا عن طريق الدعوة السليمة، لنحقق فيما جرى ويجري من مشاكسات، وواقع الضعف في المؤسسات، وكيف وصل إلى مناصب عليا من يملك ذلاقة اللسان والاحتيال والكذب أحياناً أو من يملك المال ويوزعه على الأزلام . إن تهاون أهل الخير أوضعفهم أوغفلتهم عن هذا الأمر هو سبب مصائب كثيرة في حياتنا .