دعوة رغم أنف الحثالة !
3 صفر 1436
د. خالد رُوشه

عندما تضطرب الأمور , ويختلط الصواب بالخطأ والحق بالباطل , وتكثر الفتن , فإن على المؤمن أن ينجو بدينه , ولا يضع نفسه عرضة للأهواء المختلطة والآراء المتشعبة , بل عليه أن يبحث عن الصواب ويلزمه مبتعدا بنفسه عن الشبهات والأهواء .

 

لكن من الناس من إذا قرأ بعض أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم نظر اليها برؤية واحدة ومن زاوية واحدة غافلا عن فقهها , فقعدت همته وخارت عزيمته ورأى أن الزمان قد تغير وأن مكانه هو قعر بيته مبتعدا عن العلم والدعوة ومفضلا السكون والانطواء عن بذل الجهد والعطاء في سبيل هذه الدعوة الإسلامية الكريمة , ومن هذه الأحاديث :

 

عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما في مسند الإمام أحمد وبسند صحيح ، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كيف أنت إذا بقيت في حثالة الناس؟" قال: قلت: يا رسول الله، كيف ذلك؟ قال: " إذا مَرِجت عهودهم وأماناتهم، وكانوا هكذا، وشبك بين أصابعه" ، قال قلت: ما أصنع عند ذاك يا رسول الله؟ قال: " اتق الله عز وجل وخذ ما تعرف، ودع ما تنكر، وعليك بخاصتك وإياك وعوامهم"

 

ورواية الإمام أبي داود في كتاب الملاحم قال: " كيف بكم وبزمان، أو يوشك أن يأتي زمان، يغربل الناس فيه غربلة، تبقى حثالة من الناس. قد مرجت عهودهم وأماناتهم، واختلفوا فكانوا هكذا، وشبك بين أصابعه))، فقالوا: كيف بنا يا رسول الله، فقال: ((تأخذون ما تعرفون، وتذرون ما تنكرون، وتقبلون على أمر خاصتكم وتذرون أمر عامتكم".

 

وعن عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما قال : ينما نحن حول رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذ ذكر الفتنةَ فقال إذا رأيتمالنَّاسَ قد مرجت عهودُهم وخفَّت أماناتُهم وكانوا هكذا وشبَّك بين أصابِعه قال فقمتُ إليه فقلتُ كيف أفعلُ عند ذلك جعلني اللهُ تبارك وتعالَى فداك قال الزَمْ بيتَك وابْكِ على نفسِك واملِكْ عليك لسانَك وخُذْ ما تعرِفُ ودَعْ ما تُنكِرُ وعليك بأمرِ خاصَّةِ نفسِك ودَعْ عنك أمرَ العامَّةِ " صححه الألباني في الترغيب والترهيب

 

وروى مسلم بعضه بلفظ : إن من أشراط الساعة أن يرفع العلم ويظهر الجهل ويفشو الزنا ويشرب الخمر ويذهب الرجال وتبقى النساء حتى يكون لخمسين امرأة قيم واحد.

 

وفي كنز العمال عن ابن مسعود موقوفاً ومرفوعاً قال: إنه سيأتي على الناس زمان تمات فيه الصلوات وتشرف فيه البنيان ويكثر فيه الحلف والتلاعن ويفشو فيه الرشا والزنا وتباع الآخرة بالدنيا، فإذا رأيت ذلك فالنجاء النجاء. قيل: وكيف النجاء؟ قال: كن حلسا من أحلاس بيتك، وكف لسانك ويدك.

 

والحثالة ما بقي في آخر الإناء من العكار والشوائب وهي الردىء من كل شىء .

 

ولاشك أن كثيرا من المجتمعات قد ظهر فيها كثير مما في الحديث كنقض العهود وغياب الأمانات وكثرة حثالة الناس بحيث يصير التقي غريبا والمؤمن متهما , وعندئذ يقع صاحبنا في حيرة واضطراب !

 

والحق أن النبي صلى الله عليه وسلم يصف حالة شديدة الصعوبة لم تأت بعد على الأمة الإسلامية بشكل عام , فلذلك لايمكننا بحال أن نقول أن ذلك هو دور المؤمن في هذا الوقت , أن يقعد في بيته بعيدا ومنطويا مخافة الفتن .

 

نعم هناك بعض المجتمعات قد كثرت فيها هذه الصفات الذميمة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث , لكن ذلك إنما هو استثنائي وليس أمرا عاما ولاشك .

 

فالمؤمن دائما حياته حياة العطاء والبذل , لاحياة البخل والجبن , فيظل يعطي ويبذل ويعلم ويربي ويخدم ويدعو إلى الله سبحانه حتى يلاقي ربه عز وجل , وفي صحيح مسلم لما سئلت عائشة هل كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي قاعدا قالت نعم بعدما حطمه الناس .

 

والمؤمن دوما يحمل هم أمته , فيفرح لأفراحها ويحزن لأحزانها ويتألم لآلامها , ويعد نفسه فردا منها وعضوا من أعضاء جسدها عملا بقول النبي صلى الله عليه وسلم :" مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر "

 

وهو كذلك حامل لواجب النهوض بواجبه الذي فرضه الله سبحانه عليه فقال تعالى: " ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. " , وقول الله تعالى: " وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ "

 

وقوله صلى الله عليه وسلم  : " لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم" متفق عليه , وقوله صلى الله عليه وسلم: المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجراً من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم" رواه أحمد وغيره وصححه الأرناؤوط،

 

وقال صلى الله عليه وسلم: المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير. احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز " رواه مسلم  ,  وقال صلى الله عليه وسلم: " ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل" أخرجه أحمد وصححه الارناؤوط

 

فلا تعارض إذن بين الأحاديث , فالأولى جاءت لإرشاد المؤمنين في حالات وصفت في الأحاديث وهي استثنائية , ولم تصبح عامة بعد .

 

وما فيها من نصائح بالبعد عن حثالة الناس , صالح للتطبيق دائما بالطبع , وكذلك البعد عن الشبهات , لكننا مأمورون بالدعوة إلى الله دائما لجميع الناس , لكن ذلك أيضا يجب أن يكون في ظل فهم صالح من علمائنا الراسخين , وبشروط الدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة , خصوصا في عصر انفتحت الدنيا على بعضها وصار المؤمن يستطيع أن يؤثر بكلمته وسلوكه ويضيف للخير بإضافته وجهده مهما كان صغيرا .. والله أعلم