مثلك تماماً، أعرف أنه مصطلح قد أهين لدرك سحيق بأيدي من يسرقونه أو يدعونه أو يسوقونه لشخصيات لا تستحقه.. أعرف أيضاً أن كثيرين أخفقوا في تأطيره وتحريره؛ فالعديد من المصطلحات المستحدثة التي لا يضبطها إطار محدد.. ومقدس أحياناً، تظل مستباحة لأي عابر أو مدعٍ.
لكن لا ضير.. فلنأخذ منها ما يستأهل اشتراطه ابتداءً، وهو تقدم "النخبوي" عن مجتمعه بخطوات بعيدة إلى الأمام في نفعها وثقافتها ووعيها واستشرافها، لا ما يمنح بسخاء لشخصيات هي للتخريب أقرب منها للبناء، وللجهالة منها للثقافة، تبعاً لاقترابها من مناطق النفوذ السياسية والاقتصادية والإعلامية والثقافية المناهضة لتطور أمتنا ومجتمعاتنا الحقيقي.
ولكيلا نذهب بعيداً؛ فإنني أعني تلك النخبة الرائدة التي تبني ولا تهدم، وتتعمق ولا تسطح، وتقود لا تقاد، وتستشرف ولا تدهمها المحدثات كغيرها من أبناء أمتها من البسطاء متواضعي الثقافة والعلم والإدراك.
إننا حين نواجه ما نواجهه اليوم من تغييرات هائلة تزيد منطقتنا بؤساً وتراجعاً، وشعوبنا انهزاماً وتخلفاً واستسلاماً، وبلداننا تفككاً وهواناً وانقياداً؛ فإن دور نخبة شعوبنا وأمتنا يتعين كأهم شرط يتوجب توافره لإنقاذ هذه الشعوب وتلك البلدان بما تحمله من قيم وثقافة وتراث.. وبالجملة دين.
ومن المؤسف حقاً أنه عند الالتفات إلى الممارسة الوظيفية لنخبة شعوبنا نجدها ـ في الجملة ـ تراوح مكانها عند أول مهامها التمهيدية، وهو حيز التوصيف، وليت معظمها تنجح به! ففي الحقيقة أننا إن أردنا تحديداً للدور الوظيفي للنخبة لوجدناه يتلخص في التوصيف الجيد والقراءة الدقيقة للتحديات والمشكلات التي نواجهها، ثم إيجاد الحلول لهذه المشكلات عبر تقديم استراتيجية واقعية وشاملة ومتدرجة، والتخطيط المحكم وفقاً للمتاح من الإمكانات. فدور النخبة هو بالأصل ريادي وتأثيري واستنهاضي، يتمحض لفاقدي البوصلات إرشاداً ونصحاً وتأهيلاً وتخطيطاً.
هذا ما نفتقده في أزمتنا الحالية التي نعايشها، ونعجز عن فك طلاسمها، ووظيفة النخبة أن تحل تلك المعضلة، وأن تقرأ الواقع بشكل دقيق، ولا تترك مقاعدها الأمامية لتكتفي بالهتاف لبعض المجتهدين بسطحية هنا أو هناك، أو تزحف خلف الأحداث لا أن تتقدمها وترسم معالمها وتخطط لها.
ما يقلق في هذه الفترة الزمنية ضبابية الرؤية أن النخبة قد نراها كسائر القطاعات الجماهيرية والشعبية مصابة بالعشى الليلي ذاته، لا تقوى لا على التوصيف الدقيق، ولا على استنتاج طرق الحل والفكاك؛ فهذا يقرأ المشهد دون النظر إلى التاريخ، وذاك لا يضع للجغرافيا أثراً، وثالث يعجز عن النظر بعيداً، ورابع لا يعاين التجارب الماضية، وخامس يكتفي بالتنظير بعيداً عن واقعية التأثير والأثر، وسادس يظن أنه قد حاز كل أدوات التخطيط فيغرد وحده مكتفياً بتعالمه.. هكذا.
يحكى أنه في زمن اجتياح المغول لبغداد، كان التتري يطلب من المسلم أن ينتظره في مكانه لا يبرحه حتى يعود حاملاً سكينه ليذبحه فيعود وقد وجده قد قيده الخوف عن الحركة حتى يلقى مصيره! قد كنت حين أقرأ تلك القصة لا أصدقها لصعوبة أن يحبس الخوف صاحبه حتى يذبح هكذا، لكن لما عشت هذه اللحظات الحالية كدت أصدق هذا؛ فحتى نخبة شعوبنا المخلصة تتخذ هذا الموقف المتردد هذا بكل قسوته ومرارته، حتى لكأنها تنتظر المصير المحتوم دونما أمل في تغييره.. أوليس الحال أدعى لتبوء النخبة مكانها ومكانتها لا في قراءة الواقع بشكل دقيق فحسب، وإنما لبناء استراتيجية شاملة تبني وتحصن وتدافع أمام أعدائها، وتواجه تحدياتها بقدر عالٍ من المسؤولية والشجاعة وإنكار حظوظ النفس والحياة؟!
إن التحديات الراهنة مذهلة وشديدة الخطورة، ولا يمكن النظر إليها بشكل انفرادي ولا محلي، وإنما يتعين أن ترى بعين كاشفة وقلوب مخلصة وقلوب واعية؛ فالحيرة التي تنتاب شبابنا حيالها وتدفعهم تارة هنا وأخرى هناك، وتتركهم نهباً للإفراط أو التفريط، وتُصدِّق على غثائية هذه الشعوب، لا يمكن إزالتها بإخلاص أو شجاعة وحدهما؛ فهاتان الصفتان يمكن أن تتوافرا لكثيرين، لكن الوعي وضبط البوصلة واستشراف المستقبل والتحسب له والتخطيط لكي تجري المياه به في جداولنا هو شأن النخبة، وهذا دورها الضائع الذي يتعذر على الأمة كلها بجميع تقسيماتها ودولها وشعوبها أن تفطن إليه من دون رواد يضعون لها الحلول الناجزة.. فدور النخبة الوظيفي هو ذاك تحديداً بعيداً عن مقاعد المتفرجين الهاتفين أو النائمين!