أعني به ههنا صمود الإرادة والعزيمة , الذي هو أصل كل معنى من معاني الصمود , تلكم الإرادة التي يدفعها الإيمان القلبي النقي , والتوكل على الله سبحانه القوي العزيز ويشكل بنيانها الثقة في الله سبحانه , ويقيم عودها الصبر الجميل المحتسب لله سبحانه . إنها توليفة خاصة ( الإخلاص – والتوكل – والثقة في الله – والصبر ) تكسو إرادة المرء فتجعلها اصلب من الفولاذ . تلكم الإرادة الصلبة هي امل كل راغب في النجاح إذ هي سر نجاحه , وهي مبتغى كل مجاهد إذ هي متكؤه في طريق سيره . طرف آخر لازم لنجاح تأثير الإرادة هو الفهم , وأعني به فهم الواقع المحيط , وفهم مدى إمكانية صاحب الإرادة وقدراته , وفهم تقديرات الأداء التي هو بصددها اثناء تجارب حياته . وهو فهم معتمد على العلم ومرتكز على المعلومة الجادة الثابتة , والتراكم العلمي الذي يؤدي لكمال تلكم المعلومة . إذن فنحن أمام مفهومين متلازمين هما الفهم والارادة , يكونان موقف الصمود الذي يؤدي للانتصار حتما , وسواء أكان هذا الانتصار باديا ظاهرا أو كان انتصارا غير باد ولا ظاهر لكن معناه الحقيقي قد نفذ ووقع الناجحون في حياتهم ، يعتمدون بالأساس على صفتين محوريتين لنجاحهم ، هما العلم والإرادة , وعلى أساس هاتين الصفتين تتفاوت مقامات الناس ومنازلهم .. فمنهم من هو قليل العلم ، ضعيف الإرادة ، وهؤلاء هم أقل الناس قدراً ، ومنهم من لديه علم ولكنه ضعيف الإرادة والعزيمة ، فهذا سيظل محبوساً في سجن ذاته ، غير مستغل لقدراته وإمكاناته ، ومن الناس من هو ضعيف العلم لكنه كثير المجهود ، فهو يتخبط بجهده غير مستوضح هدفه ولا سبيلة , وأما كمال مقامات الناس فهي إنما تتحقق بالعلم والعزيمة عندما يجتمعان كثير من المتساقطين في سبيل الحياة إنما يعود سبب سقوطهم لضعف عزائمهم ، لأن معوقات الحياة كثيرة ، وهي أكثر لمن أراد التغيير ، فإذا كان سير الإنسان ضعيفاً وقوته ضعيفة وهمته ضعيفة فهو عندئذ نهب مستباح لذئاب العالم وقاطعي الطريق . وقد أدرك النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم هذا المفهوم ، ومن ثم انطلق في حياته من عزيمة لا تعرف الكل , وعمل على تقوية العزائم في نفوس أصحابه وأمته ، وحاول جاهداً أن يجعل لهم طموحاً متدرجاً نحو معالي الأمور ، وكان كثيرا ما يقول في صلاته يدعو ـ " اللهم إني أسألك الثبات في الأمر ، والعزيمة على الرشد" . ويسأل ربه أن يثبته على ما تحقق من إنجاز ، وأن يعطيه العزيمة على إكمال السبيل ، سائلا ربه أن تكون عزيمة رشيدة نافعة حكيمة عليمة .. المنهج الإسلامي حرص على بناء نفوس الأمة ، على أن تكون نفوساً قوية أبية , تملؤها الإرادة ، ولا يفت فيها الألم ، ولا تتأثر بكثرة الضعفاء من حولها ولا بكثرة الأعداء حولها ، وفي كل ذلك يربطها رباطا ًربانياً بإله السماء سبحانه ، العزيمة عمل قلبي بالأساس ، وإذا فقد القلب عزمه خارت قوى الجسد مهما كان قويا ، وقد تكون قوة الأعضاء متواضعة ولكن تقويها عزيمة القلب وتصلبها إرادته ويدعمها طموحه . ومن هنا كان صلى الله عليه وسلم يركز في توجيهه لأصحابه نحو بناء العزيمة في نفوسهم ، أن قلوبهم صاحبة القول النهائي في ذلك ، وأنه لابد من همه القلب قبل همة الأعضاء .. إنه في مواقف كثيرة ، يخبرهم ، أن المرء قد يبلغ الدرجات العلى بهمه قلبه ، حتى قبل أن تصل إليها جوارحه وأعضاء جسده , يقول في حديثه : " من هم بحسنه فلم يعملها ، كتبها الله عنده حسنه " . بل قد يتفوق المؤمن الفقير بهمته العالية على الغني كثير المال كما في قوله : " سبق درهم مائة ألف درهم " ، قالوا : يا رسول الله ! كيف يسبق درهم مائة ألف ؟ " ، قال : " رجل كان له درهمان ، فأخذ أحدهما ، فتصدق به ، وآخر له مال كثير ، فأخذ من عرْضها مائة ألف " . فلكأن الإسلام هنا يبين أن الطريق إلى الله إنما يقطع بقوة العزيمة وعلو الهمة وتصحيح النية ودفق الطموح ، وأن عملاً قليلاً قد يصل صاحبه بعزمه ونيته إلى أضعاف مضاعفة مما يقطعه قليل العزيمة ضعيف النية .. إنه يُعلمهم أن إرادة المرء تذهب مشقة الطريق ، كما يعلمهم أن ضعف العزائم من ضعف حياة القلوب ، وأن القلوب كلما كانت أتم حياة ، كانت أكثر همة وعزيمة ، وكما أن عزيمة القلب هي دليل على حياته ، فإنها في ذات الوقت سبب إلى حصول حياة أكمل وأطيب , فإن الحياة الطيبة إنما تنال بالهمة العالية ، والمحبة الصادقة ، والإرادة الخالصة ، فعلى قدر ذلك تكون الحياة الطيبة ، وأخس الناس حياة أخسهم همة ، وأضعفهم محبة وطموحاً إن الذين يربطون جهدهم بتحقيق إنجازات محدودة فحسب ، يصيبهم الخور كثيرا , ففي كل فترة يحتاجون إلى بداية عزم جديد ، وقد تنكسر منهم عزائمهم وتسكن إرادتهم بعد حدوث إنجازاتهم المحدودة ..