يقول الشيخ محمود شاكر رحمه الله: « تثبت قبل أن تحكم ، وتدبّر قبل أن تقطع ، واستقص قبل أن تستوثق ، وانظر لنفسك قبل أن تزلّ بك قدمٌ .
واعلم أنّ شرّ أخلاق الناس اللجاجة ، وشرّ اللجاجة لجاجة العالم ، وشرّ لجاجة العالم لجاجته فيما لا يعلمُ ، أو فيما لا يُحسِنُ ، وأنّ نصفَ العلم قولُ المرء فيما لا يدري : لستُ أدري » .
وأقول : كلمة : « لا أدري » متعدّدة نواحي الأدب .. وهي عصمة لطالب العلم من أن تزلّ به القدم ، فضلاً عن غيره من العامّة أن يتكلّم فيما لا يعلم ..
ومن علّمونا أدب العلم في قول : لا أدري ، كانوا أساطين في العلم ، وكانت هذه الكلمة تستحثّهم على البحث والازدياد من العلم ، ولم يقولوها تبريراً للكسل والقعود ، وحاشاهم من ذلك ، وهم الذين ضربوا أروع الأمثلة في طلب العلم ، حتّى وهم على فراش الموت .
ولكنّ قول طالب العلم فيما لا يَعلمُ ، أو ما لا يُحسِنُ : « لا أدري » ، قد اتّخذه بعض كسالى طلاّب العلم في هذا العصر تُكَأة لتبرير التراخي عن طلب العلم ، والجدّ فيه .. ولذا فإنّي أودّ أن أقدّم بعض التفصيل لهذا الأمر .
فما لا يَعلمُ طالب العلم ، أو ما لا يُحسِنُ على درجات ، وليس كلّه ممّا يعذر بجهله فيه :
ـ فمنه ما يدخل في اختصاصه دخولاً مباشراً ، أو يتّصل به اتّصالاً وثيقاً ، فلا عذر لمختصّ في الفقه أو الحديث مثلاً بجهله بالنحو ، وربّما يعذر بجهله بدقائق النحو .. كما لا يعذر المختصّ في التفسير بجهله بالفقه مثلاً .. ويعذر بجهله بفروع الفقه قليلة الوقوع ..
ـ ومنه ما لا يدخل في اختصاصه : كعلم الطبّ بالنسبة لطلب العلم الشرعيّ ، ولكنّه هل يعذر بالجهل بما هو من الثقافة الطبّيّة العامّة ، التي ينبغي أن تعلمها العامّة بله الخاصّة .؟ ومن البداهة ألاّ يتكلّم بأمر طبّيّ يتّصل بحكم شرعيّ إلاّ بعد سؤال المختصّين الموثوقين فيه .
ـ ومنه ما نسمّيه : ثقافة العصر والواقع ، فهناك من العلوم ، والثقافات ، والمصطلحات ، الموضوعيّة ، ومنها ما يتّصل بالفكر المعادي للفكر الإسلاميّ ومصطلحاته ومفاهيمه .. ممّا غدا ثقافة مجتمعيّة ، لا يعذر طالب العلم بجهلها بحال من الأحوال ، وإلاّ فخير له ألاّ يحمل راية هذه الشريعة ، علماً بها ، ودعوة إليها ، ودفاعاً عنها .. وألاّ يرتاد منابرها ، إذ نقصه في ذلك مشين غير مرضيّ ، ولا معذور .. ولا يبرّر له ذلك أن يقول إذا سئل عن مثل هذه الأمور : لا أدري ، ويبقى مصرّاً على مجافاتها وإهمال الأخذ بها ، ويظنّ أنّه بذلك يلتزم بأدب علميّ ..
ويبقى السؤال المهمّ الذي يبحث في نفسي عن الإجابة :
لماذا عُرف في أسلافنا ألوف العلماء الموسوعييّن ، ولم يعرف ذلك في العصور القريبة إلاّ على ندرة ، وليست بتلك الصورة من الكثرة .؟!
ولماذا يتّخذ كثير من المعاصرين التخصّص حجاباً بينهم وبين الجهل بالعلوم الأخرى ، التي لها وثيق الاتّصال بما تخصّصوا فيه .؟!
السرّ في ذلك على وجه الإجمال والله تعالى أعلم يعود إلى أمرين : البيئة العلميّة ، والمناهج التعليميّة . وهو يحتاج إلى بيان خاصّ ، عسى الله تعالى أن يمنّ بحسن التوفيق إليه والسداد .
إضاءة نبويّة : عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَنْهُومَانِ لاَ يَشْبَعَانِ : مَنْهُومٌ فِي عِلْمٍ لاَ يَشْبَعُ ، وَمَنْهُومٌ فِي دُنْيَا لاَ يَشْبَعُ ) . رواه في المستدرك (1/ 91) ، وقال : هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ ، وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ ، وَلَمْ أَجِدُ لَهُ عِلَّةً . وقال الذهبي في التلخيص : عَلَى شَرْطِهما ، وَلَمْ أَجِدُ لَهُ عِلَّةً .