عانت الأمة الإسلامية منذ مرحلة ما بعد عصر النبوة إلى الآن من إشكالية كبيرة وهي وجود تفاوت بين موقف الرعية أو الجماهير وردود أفعالها وتباين موقفها بين التهور والجبن وبين عصيانها لقادتها أو انصياعها لهم ومعاونتهم على الوصول لتحقيق آمال الأمة .
وبين موقف القيادة التي تتباين بين قيادة حكيمة رشيدة أو غير ذلك فلم يكن هناك وقت في الأمة الإسلامية تحقق فيه هذا التمازج بصورة مثالية أو قريبة جدا من المثالية مثلما كانت في عصر النبي صلى الله عليه وسلم , حيث تمثلت القيادة في أعلى درجات رشدها البشري المدعوم والمؤيد من الله سبحانه حيث اتصلت السماء بالأرض فكان هناك تعقيب وتوجيه الهي للنبي صلى الله عليه وسلم كقائد للأمة .
وكانت الجماهير في أعلى وارشد درجات نضجها حيث كانوا صحابة النبي صلى الله عليه وسلم الذين رباهم على يديه وأدبهم بأدبه وهم الذين أثنى عليهم الله سبحانه وتعالى وأنزل آيات كريمات فيها الرضا عنهم في مواضع عدة في القرآن الكريم ومات النبي صلى الله عليه وسلم وهو عنهم راض .
ومثلت قصة طالوت مع قومه مثالا واضحا للتفاوت الكبير بين القيادة الواعية والجماهير غير المسئولة وغير المنضبطة والتي يمكنها أن تدخل القيادة في أزمات كثيرة نتيجة للصورة البراقة التي تمنحها للقيادة عن استعدادهم للعمل والبذل دون وجود ثوابت عقائدية وسلوكية تؤكد هذه المزاعم , وتبين أيضا في الوقت ذاته القيادة الواعية الحكيمة التي لا تغتر بالأقوال ولا الصياح بقد ما تنظر إلى العمل الجاد وأخذ كل وسائل الاستعداد والاطمئنان على الجند وخاصة إذا كانوا على مشارف معارك ضخمة وأحداث جسام .
والواقع الإسلامي يؤكد أنه في معارك المسلمين مع غيرهم منذ بدء الخليقة لا علاقة مؤكدة بين النصر وبين كثرة العدد والعدة , فلم يكمن نصر المؤمنين في يوم من الأيام في عددهم ولا عدتهم , بل ربما على العكس من ذلك , فأغلب انتصارات أهل الإسلام جاءت في وقت قلة في العدد وضعف في العدة , ولم يكن سبب انتصارهم إلا ارتباطهم بربهم سبحانه وحسن اتصالهم به .
وفي بداية حاجة بني إسرائيل للحرب للدفاع عن أرضهم وأبنائهم وأموالهم ودخول الأرض المقدسة مرة ثانية إذا بالجماهير المندفعة غير المقدرة للموقف التي تظن أن دخول الحروب نزهة من النزهات , فلم تقدر هذه الجموع أن الحرب أمر مكروه بذاته للبشرية كلها كما قال ربنا سبحانه " كتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ " , ففيها تضحية بالنفس وبالمال وبالوقت وفقد الأحبة ويتم الصغر وترميل النساء , في ليست مغامرة أو ترفا وتحتاج لقلوب مؤمنة تعلم أن ما عند الله خير وأبقى.
ولهذا لم يغتر نبيهم بموقف الجموع , ولم يغتر أيضا طالوت بهذا العدد وهذه الروح البادية , فأراد أن يستوثق منها حتى لا يبني خطته في حربه على وجود هذا العدد الذي يتضخم من ناحية الكثرة العددية بينما , وحتى يتأكد أن هذه القلوب يمكنها أن تضحي أو تتحمل تبعات ومسئوليات الحروب , كي لا يكون هذا العدد ورما على الجسد المؤمن يؤذيه لا شحما يقويه.
فعقد لهم عدة اختبارات نفسية وسلوكية لقياس تحملهم وصدق ادعائهم , فرسب فيها أغلبهم ولم يتقدم فيها إلا اقل القليل من الجيش الذين كانوا في مقياس العدد لا يمكنهم بأي حال أن يثبتوا للحظات أمام جيش جالوت فضلا عن تفكيرهم في الانتصار عليه , ولم يَسِر طالوت كقائد حكيم على رأي الجماهير الهادرة التي كانت تطالبه بالحرب دونما استعداد لشيئ أو دونما الرغبة في التخلي عن بعض الشهوات أو محاولة الانتصار عليها .
إن الفئة المؤمنة لم ولن تنتصر أبدا إلا إذا انتصرت بداية على شهوات نفسها ومهما بلغت عدتها قوة أو بلغ عددها كثرة فلن تنتصر إلا بتخلي القلوب عن كل صلة الا صلتهم بالله , فسيتأخر النصر وربما تحل الأخرى في كل جيش مسلم يقع في لحظة من لحظات شهوات النفس الخفية . وحسبنا أن النصر تأخر وحلت الأخرى في أحد وحنين في جيشين كانا يقودهما خيرة خلق الله محمد صلى الله عليه وسلم .
إن فورة الجماهير غير المسئولة والتي لا تقدر الأمور على حقيقتها فورة مصطنعة واهية لا يمكن التعويل عليها , فكم من دعوة جماهيرية لقادة خدعوا بها وظنوا أن معهم جيوشا جرارة وأعدادا غفيرة فما لبثوا أن انكشفوا في الميادين الحقيقية , والأمثلة كثيرة جدا في التاريخ الإسلامي لقادة وزعماء وأئمة خدعوا بالزخم الشعبي الزائف لتتأكد المقولة الصادقة " إن ميدان القول ليس كميدان العمل , وان ميدان العمل ليس كميدان الجهاد " .
وكما ابتلي القادة الإسلاميون المخلصون بالجماهير الغفيرة التي لا تقدر الأمور قدرها وتدفعهم إلى اتخاذ قرارات وتبني مواقف غير صحيحة ابتليت الشعوب أيضا بقادة يخذلون الناس في كل الميادين ويثبطونهم ويقللون من عزمهم بل وربما يصورون للآخرين أن كل مطالب باتخاذ موقف ايجابي في قضية ما على انه جاهل أو غر.
إن أفضل ما يمكن تقديمه للأمة هو محاولة حل هذه الإشكالية الكبيرة في التفاوت بين تطلعات الجماهير الواعية وغير الواعية وبين تفهم القادة لهم وتعاطيهم مع قدراتهم الحقيقية وما يصلحهم بالفعل , فان كان في الرعية طيش قومه قائدهم , وعلمهم , وبصرهم , ونصحهم , وأعلمهم بما يصلحهم
وعلى الناس أيضا ممثلين في حكمائهم وعقلائهم وعلمائهم الدور الآخر المهم من المسئولية في نصح قائدهم ومده بالرؤية ودعمه بالبصيرة لكي يكتمل ركنا الأمة الإسلامية للنهوض مرة أخرى بعد هذا السبات العميق الذي طال كل هذه المدة .