تمر أمتنا الإسلامية بمرحلة شائكة من مراحل حياتها , تتقاذفها الأمواج العاتية , ويعصف الخلاف بالعلاقات بين أبنائها , ويكسو الحزن وجوه شعوبها
إن أحداثا شدادا مثل التي تمر بالأمة وما ينتج عنها من رعدة قاسية في مشارقها ومغاربها , مع شعور بكسرة نفسية عند الكثيرين نتيجة الأحداث , وفي ظل بيئة نفسية محتقنة , تظهر الجرأة على العنف وتطل دعوات الإيذاء برأسها .
وتطل فكرة التكفير الخبيثة برأسها لتتصدر المشهد المؤلم , ولتعتمد في بنائها على دافعين , هما " التكوين الفكري المستعد للإقصاء والتكفير , والشحن النفسي الضاغط " , وباعتبارهما تخرج الفكرة التكفيرية الخبيثة من مكامنها إلى قلوب بعض الشباب الذين يرون الأفق أمامهم مسدودا بينما هم ليس لهم إطارا مرجعيا علميا ولا يقنعون برؤية أهل العلم أو تقديرهم للواقع , فيهوون في هاوية التكفير ...
والحق أن وصف التكفير هو ابعد ما يكون عن شعوبنا الإسلامية , لكنني لا أستبعد أن تجد هذه الفكرة الخبيثة طريقها للنمو إذا تهيأت لها بيئة مناسبة لها
ومن ثم فدعوات التكفير التي يقام على اساسها العنف هي دعوات غير مقبولة شرعا , ولئن أوصلت الخلافات السياسية البعض لارتكاب أخطاء ايا كانت فإن مسمى الإسلام يبقى وصفا له , والله سبحانه سمى أطراف النزاع المسلمين بمسمى الإيمان والأخوة برغم ما وصلت إليه النزاعات بينهم من خلاف وشقاق فقال سبحانه : " إنما المؤمنون أخوة "
المصيبة هنا أن التكفير لابد أن يؤدي إلى الانحراف السلوكي , والحقيقة أن أمة الإسلام لم تعان في تاريخها من آفة مثلما عانت من آفة تكفير المسلمين ، تلك الآفة التي جعلت البعض يطلقون أحكام الكفر على المسلمين بغير مبرر شرعي ، وقد نسي هؤلاء أو تناسوا أن المجازفة بتكفير المسلمين أمر خطره عظيم ، فإخراج مسلم من دينه ، والحكم عليه بالكفر هو خلع لربقة الإسلام من عنقه ، وجزم بخلوده في النار .
فعن ابن عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" أيما رجل قال لأخيه يا كافر . فقد باء بها أحدهما" البخاري
وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" لعن المؤمن كقتله , ومن قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به في الآخرة , وليس على رجل مسلم نذر فيما لا يملك , ومن رمى مؤمنا بكفر , فهو كقتله" البخاري
يقول ابن دقيق العيد :" وأما من وصف غيره بالكفر: فقد رتب عليه الرسول صلى الله عليه وسلم قوله: "حار عليه" بالحاء المهملة: أي رجع....وهذا وعيد عظيم لمن أكفر أحدا من المسلمين وليس كذلك , هي ورطة عظيمة وقع فيها خلق كثير من المتكلمين ومن المنسوبين إلى السنة وأهل الحديث"
ويقول ابن عبدالبر: "القرآن والسنّةُ ينهيَان عن تفسيقِ المسلم وتكفيرِه ببيان لا إشكالَ فيه "
وفي مثل ذلك يقول الإمام الغزالي "والذي ينبغي الاحتراز منه التكفير ما وجد إلى ذلك سبيلاً ، فإن استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة المصرحين بقول لا إله إلا الله محمد رسول الله خطأ ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم لمسلم , وقال : "القضية أن تكف لسانك عن أهل القبلة "يعني المسلمين" ماداموا يقولون لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فإن التكفير فيه خطر أما السكوت فلا خطر فيه".
لقد قرر علماء الإسلام أن اليقين لا يزول بالشك , وأن الحقائق لا تمحي بالظن وأن من ثبت إيمانه بيقين فلا يزول إلا بيقين مثله , والأصل في التعامل مع المسلم هو استصحاب الأصل الذي هو عليه وهو الإسلام مهما اختلفت معه , ولا يصح انتفاء هذا الأصل إلا ببرهان جلي ودليل أوضح من شمس النهار , وأن الاتهام بالكفر ليس وظيفة عامة الناس ولا حتى طلاب العلم , إنما هو راجع للعلماء الراسخين والقضاة الشرعيين الذين يستطيعون إقامة الحجة بشروطها عبر القضاء الشرعي .
وتبيين رفض دعاوى التكفير هو أحد أدوار العلماء بل هو دور هام في هذه الأيام , لأنه تبني عليه شتى سلوكيات العنف .