لا شكّ أنّ من إعجاز « النصّ القرآني » ، في أسلوبه وبيانه ، وحقيقته ومضمونه ، أنّه يخاطب إنسان هذا العصر وكلّ عصر ، بلغة مؤثّرة غاية التأثير ، وكأنّها تنزّلت له ، كما خاطب إنسان عصر نزول القرآن ..
وهو في خطابه المعجز يحدّد مطالب الإنسان واحتياجاته ، ويعرّفه بحقيقة مشكلاته ، ويقدّم لها الأحكام المناسبة ، والحلول الصحيحة ..
ويأتي في المرتبة التالية بهذه الصفة : « النصّ النبويّ » ، لأنّه نوع من الوحي ، لصدوره عمّن لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلاّ وحي يوحى .. فهو قمّة البلاغة الإنسانيّة ، والتأثير النفسيّ ، والمواكبة لكلّ العصور ، حتّى عدّه بعض الأدباء معجزاً ، ولا يستبعد ذلك ، ولا يستغرب ..
وما سوى هذين الأصلين من النصوص التي يكتبها العلماء والدعاة والمفكّرون ليست لها هذه الخاصّة ، ولا تأخذ منها إلاّ بقدر ما تتّصل بهذين الأصلين ، من حيث أسلوب الخطاب ومضمونه ..
ولا بدّ من شيء من البيان والتفصيل ؛ فنصوص العلماء والدعاة والمفكّرين الإسلاميّين على مدار التاريخ كلّها تدور من حيث الموضوعات والمضمون في فلك الوحيين ، بصورة مباشرة أو بصورة غير مباشرة .. ولكنّها تتفاوت تفاوتاً كبيراً من حيث الأسلوب ، الذي يطبع نصوص الوحيين الشريفين ..
فبالنظر إلى الأعمّ الأغلب في أساليب الكتّاب عبر القرون ، والمقارنة بين بعضها ، وبينها وبين أسلوب الوحيين الشريفين نرى أنّها محكومة بطابع عصرها ، وما يغلب على ثقافة كتّابه ومؤثّراتها ..
والقرون الإسلاميّة الأولى كانت أقرب إلى أسلوب الوحيين الشريفين بصورة ظاهرة بيّنة ..
ويترتّب على ما سبق أنّ أسلوب الخطاب لعصر قد لا يصلح لعصر آخر ، ولا يناسبه مطلقاً ، ولنضرب على ذلك مثلاً بأسلوب السجع في الخطابة والكتابة ، الذي سيطر على الخطباء والكتّاب قروناً متطاولة ، وكذلك الأسلوب الفلسفيّ والمنطقيّ ، وأساليب علم الكلام المعقّدة ، التي ارتهنت لها كتب العقيدة دهراً طويلاً ..
فهل من البرّ بالآباء والأجداد ، والعلماء والدعاة أن نستنسخ أساليبهم في الخطاب العلميّ والدعويّ .؟ ونظنّ أنّ ذلك من الوفاء لهم .. ولو بعث هؤلاء العلماء والدعاة فينا من أجداثهم هل يصرّون على أساليب خطابهم العلميّ والدعويّ الذي كانوا عليه .؟ فما بال كثير من الأتباع يظنّون أنّ من البرّ بمشايخهم أن يجمدوا على ما ورثوا عنهم من آثارهم ، ويأبون تجديد خطابهم وتطويره .؟! إنّهم بكلّ وضوح يسيئون إليهم من حيث لا يشعرون ، ويسيئون إلى علم مشايخهم وفكرهم ، وهم يظنّون بأنفسهم المحافظة عليه والوفاء له ..
إنّ مستجدّات العصر ومتغيّراته المتسارعة تفرض على دعاة الإسلام الغيارى أن يواكبوها ، ويوظّفوها لخدمة دينهم دعوتهم ، ويطوّروا من أساليبهم ويجدّدوها ، لتكون تلك المستجدّات سلاحاً بأيديهم ، وقوّة لدينهم ، لا سلاحاً عليهم ..