مجتمعنا وانحراف الفطرة
20 صفر 1435
هشام خالد

الفطرة هي ما جبل عليه الإنسان في ذاته الداخلية او الخارجية , وهي أول ما عرف وما أحس وأول ما وجه شعوره نحوه , وأول عين رآي بها الحياة .

 

 

فكل ابن آدم ُولد على فطرة الإنسانية , وهذه الفطرة تقتضي ميوله نحو اشياء عديدة مثل حب المال, و حب الحياة , وحب الملكية , و حب الزوجة أو الزوج , و حب الولد و..إلخ , كما تقتضى نفوره ذاتيا مثلا من ذكر الموت او الهلاك والفناء , من ذكر الفشل , فإن ذكرت امام طفل انه لا يحبه احد وانه فاشل اوانه سيموت فتراه يبكي رغم انه لم يجرب معنى الفشل او الموت لكنه جبل على النفور من تلك الأشياء .

 

 

والدين الإسلامي موافق للفطرة ولابد و بل هو دين الفطرة السوية لاتفاق الاثنين في المصدر , فخالق الفطرة هو منزل الدين وفارضه وهو الله عزل وجل , ولكنه قد يضع لها ما يزكيها ويقوم سلوكها ويضع ضوابط لها حتى لا تسلك مسلكا منحرفا يؤدي إلى عواقب وخيمة .

 

 فقد فطر الإنسان على بعض الجبليات التي تستوجب بقاءه في الحياة كالزاوج حتى لا ينقرض الجنس البشري , وحب البقاء , والخوف من العدو , وتعد الفطرة من الخواص الإنسانية فقط فليس للحيوان فطرة , ولكن هناك تدخل للغريزة يشترك فيها الانسان والحيوان وهي فعل الشيء لا لسبب إلا لأنه غريزة داخلية , ومن ثم فإن استدراج الفطر الإنسانية إلى ان تكون محض غرائز يتوجب إشباعها لهو تشبه بالأنعام وغياب للعقل واستغناء عن معنى الإنسان .

 

 

إذا فهناك اشياء قد فطر الإنسان ليكمل بقاءه , واشياء لتنظم طرق حياته , وآخرى لتميزه عن الحيوان .

 

والدين لم يترك الفطره بلا ضابط او توجيه بل وضع ضوابط حتى لا تنحرف الفطره إلى الطرق الحيوانية والغرائزية والشهوانية .

 

 

فقد وضع لفطرة الميول الي الجنس الآخر الزواج , ووضع لفطرة حب المال الكسب الحلال والصدقة والزكاة , ولفطرة حب النفس والولد والأهل والموطن كونها مباحة لكن لابد ان يكون حب الله والرسول صلى الله عليه وسلم أحب وأعلى منها ,  ولفطرة حب الحياة الترغيب في بذل النفس في سبيل الله .

 

 

 

وهكذا جاء الدين يعترف بالفطرة ولكنه جاء ضابطا لها , لا ينكر شيئا منها ولكنه فرض معها جهاد النفس في الامور التي تستوجب الضبط .

 

 

ودعنا نتكلم عن تطور سلبي تاثرت به فطرة حب الحلال والانقباض والاشمئزاز من الفواحش , وهي فطرة في امه الاسلام يتشبع بها القلب , كما بحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم حين عرج به إلى السماء جاءه جبريل عليه السلام بإناءين: في أحدهما لبن، وفي الآخر خمر، فقيل له: اختر أحدهما ، فأخذ صلى الله عليه وسلم الإناء الذي فيه اللبن فشربه ، فقال له جبريل عليه السلام : "هُديت الفطرة " .

 

 

 

فلا ميول فطري نحو الخمر او اللبن , بل إن الفطرة التي تتوجه نحو الحلال والبعد عن الحرام , هي فطرة المسلمين التي هدى الله نبيه عليها .

 

 

فشرب الخمر إذا - بجانب كونه كبيرة - هو انحراف لهذه الفطرة , وفعل فواحش الزنا بالرغم من ان هناك دافعا غريزيا لها , إلا انها اصبحت هوجاء من دون ضابط فتعد انحرافا للفطرة الإسلامية التي قننتها وجعلت متنفسها وراحتها مع الحلال  .

 

 

إن نظرة إلى مجتمعاتنا تشي بكونها في منعطف كبير من هذه التجاوزات التي تبدو دوافعها الغريزية غير مضبوطة , وتعد انحرافا لفطرة القلب السليم , كالسهم الذي يسري في طريقه منذ أن انطلق بغير تغيير ذلك المسار الذي سار عليه .. إلا الريح التي قد تشتد فتغير من مساره وعندئذ يظل سائرا في الطريق الخطأ وظنه انه على الصواب .

 

 

هكذا الفطرة التي كانت بمجتمعنا منذ ان جاء إلى الحياة , السير على طريق الحق , وانكار المنكر , والاشمئزاز من الباطل , وتغييره وتصحيحه إن كانت الفطرة سليمة وغير مشوهة ولم يحرفها حارف عن وجهتها

 

 

فلا أحد حينئذ يمكنه استدراجه إلى خبث ما , او سوء او ضرر إلا ماكان نادرا شاذا منتقدا , فالفطرة القلبية هي الموجهة , مثلما وجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اللبن ليس إلى الخمر , إنها هي التي يعيش علي إثرها القلب السليم وتتبنى العمل الصالح , وكأن الهوى هو تلك الريح التي تغير مسار الفطرة .

 

 

لقد أدرك عدونا تلك المعادلة , وفهم اننا مجتمع فطرعلى اخلاق الاسلام , ولن نندرج إلى منعطف الضلال إلا إذا تشوهت الفطرة في قلوبنا
فإن انحرفت السجية فلا واق من انحراف السلوك والأفعال والأفكار كحبات تنفرط من العقد تلو الاخرى , إلى انحرافات اكبر فأكبر , وكل ذلك نتج عن عدم اتباع الضبطيات التي زكى بها الدين فطرة البشر , فبدأ في التأثير على فطرة القلب المؤمن .

 

 

الضمير جندي من جنود الفطرة السليمة , فهو ساكن مطمئن مادامت الأفعال مناسبة لتلك الفطرة , ودائما ما يلوم مع النفس اللوامة عندما يتعارض السلوك مع طبيعة الفطرة السليمة , فإن فسدت الفطرة فسد السلوك وفسد الضمير وانتهى دورة في التفرقة في المواقف بين الحق والباطل , وتراجعت النفس اللوامة وأفسحت المجال للأمارة بالسوء , و ولعل تلك الإشارة العظيمة في الحديث النبوي الشريف مبينة لهذا المعنى , فعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "  تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ " متفق عليه

 

 

 

هناك إذن معنى واضح للانحراف , مصدره داخلي , و عندما يفسد الداخل , فيضطرب السلوك وينحرف حتى إنه لايعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أحبه هواه !

 

 

مجتمعاتنا تنحدر بسرعة مفزعة في منعطفات الانحراف , يوما عن يوم يزداد مؤشر الانحراف , فبالأمس كان ذلك الفعل شنيعا , واليوم اصبح مألوفا .. و على هذا فمستنكر اليوم هو مألوف غدا .. حتى يصبح فعل المستنكر هو الرجوع إلى الصواب !
ألم نقرأ قوله تعالى عن سوء فعال بني إسرائيل ودلائل انحرافاتهم : " كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ماكانوا يفعلون "  المائدة

 

 

 

الغرق في بحر المباح بلا فهم لمعنى الورع , كان هو البداية , فقد اوقعنا في الشبهات التي اوقعتنا في الحرام , وبدأ خط الانحراف يسري بنا دون ضوابط وتتمكن الغرائز من السلوكيات .

 

 

 

إن كتابة عن علاج الانحراف المجتمعي - غافلة ما وصلت إليه الفطرة المجتمعية من قيم ومفاهيم وتفاعلات وسلوكيات تجاه مفاهيم مثل الطهر والعفاف والطيب والطهارة والإيمان - لهي كتابة ضائعة ولاشك ولن تزيد صفحاتها إلا حروفا على حروف

 

 

يعلم المربون ان الأمر اكبر من ذلك , وأن الفطرة في مجتمعاتنا تتآكل , فلا تربية تنفع إن كان العالم الخارجي قاتلا لفطرة القلوب بينما الداخل أيضا يسود وتنقلب عنده المفاهيم , ويأتي بعد ذلك المربون ليسألوا .. لماذا ينحرف أبناؤنا وقد بذلنا الجهد في تربيتهم ؟!

 

 

إن مناط البحث ومركزه ليس في الظواهر ايها المربون الكرام , إن مركز بحثنا هو تلك النفوس وتلك الدواخل وتلك القلوب التي هي مستقر معاني الفطر السليمة .

 

ولئن كانت الفطر السوية تدفع الناس للأفعال والمشاعر الصائبة , فإن فطرة امه محمد صلى الله عليه وسلم تدفعها إلى تجنب المعاصي والشبهات , إنها إذن هي المربي الأفضل والإسلام يدعو دائما لبعثها من جديد إذ يقوم اصلها على مراقبة الله سبحانه التي تدفع بحسن الأخلاق والسلوك .

 

 

لكأن التدمير الكلي للجيل الجديد ناتج عن تدمير جزئي للجيل القديم و جيل إلى جيل يزداد الانحدار , فالأب الذي تدفعه فطرة حب الولد إلى ان يمسك ابنه عن البذل في سبيل الله لا يمكن ان تنتظر من ابنه ان تولد بداخله إلا فطرة مشابهة لها , اما الذي يدفعه للعطاء مثلا ويتغلب على شهوة حبه لولده في سبيل الله فهنا تتكون فطرة العطاء  لدي الولد , وعلى ذلك قس فطرة حب المال وغيره

 

 

إن الشركيات والبدع , والتقليد الأعمى للغرب, والتشبه بهم , وإنفاق المال في الحرام , والحسد , والجهل عن ديينا وعقيدتنا , والشهوات , والفراغ  , والتفكك الأسري , والرفقة السيئة , والتأثير السلبي للإعلام , والبيئة المحيطة .. كلها عوامل اتاحت الفرصة للفطرة الفاسدة في النمو والتمكن من القلب لتحل محل الفطرة الحسنة .

 

 يقول تعالى " ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه " فالفطرة مكانها القلب , والقلب كالزجاجة التي لا يمكن للماء الدخول فيها إلا بعد خروج الهواء , فلا يسع إلا لشيء واحد , إما الخير او الفساد , وليس هناك قلبا آخر , نعم قد يخطىء الصالحون أصحاب القلوب الطيبة وقد يذنبون في لحظات , لكن القلب في النهاية لا يمكنه أن يسع منهجين أحدهما ظلام والآخر نور !

 

على جانب آخر فإن البيئة المحيطة بنا , ومفرداتها التي قد نستهين بأثرها في أحيان كثيرة تؤثر سلبا في تلك الفطر الطيبة لأبناء مجتمعاتنا , بل تكون ايضا من أسباب انهيار فطرة اختيار الطيب الحلال والبعد عن الخبيث .

 

 

إن مفردات مثل الإعلام , والأفلام , والروايات  , و المجلات , والأغاني الماجنة , ونشر قيم مزيفة عن المال والسلطة والعلاقات وغيرها قد نخرت نخر السوس في دواخلنا الطيبة ولئن سكتنا عليها فلا علينا إذن أن نرى مجتمعاتنا قد أكلها السوس ونخرها ناخر العظم

 

 

ان القصة تتفاقم يوما بعد يوم , ومنحنى الانحراف يزداد انحناؤه , فقد صارت صورة القدوة لنسائنا وبناتنا كل خبيثة ماجنة , بينما تتصدر مشاهد البطل المغوار قدوة الشباب صدور المجالس وهو يحتسي الخمر أو يدمن على المخدرات وشتى أنواع النجس ! .

 

 لحظة فلحظة ويوم فيوم تصير تلك الصور معتادة ويصير المنحرف بطلا وتصبح البغي نموذجا يحتذى , ودعونا ههنا نستحضر الحديث الكريم الذي يصور بكل وضوح وبيان ما نعيش فيه , فعن النعمان بن بشير رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها. وكان الذين في أسفلها اذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا! فان تركوهم وما أرادوا هلكوا، وهلكوا جميعا، وان أخذوا على أيديهم نجوا، ونجوا جميعا" رواه البخاري.

 

ان عقول مجتمعاتنا بين يدي شياطين فجرة لا يعلمون سوى لغة المال والمصلحة , متوجهون من عدو هدفه كسر شوكتنا ودحض خيرة شبابنا ,  وقد جند آلاف الصفحات والمطابع، والمحررين، والقنوات والمواقع , والأجهزة المختلفة لتحقيق مطلب واحد هو تشويه تلك الفطرة السوية التي تعرف الحق وتنكر الباطل وتحب الحلال وتبغض الحرام

 

 

إن هذا الدين متين , وإن له إلى القلوب ملايين الطرق , إلا اننا لا نزال كسالى منهمكون في طيب العيش الذاتي , غافلون عما يراد بنا  , ومتناسون مسئولياتنا العظمى

 

إنه لا نبي آخر سيظهر حتى ينتشل المجتمع من ذلك المنحدر , ليس سوى رسالة النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم , ففيها النور وفيها البشرى وفيها الهدى وفيها البيان