عندما يفتقد الداعية إلى الله القدرة على توصيل رسالته المراد بثها للآخرين , أو عندما يفقد بوصلته في توجيه دفة الحوار مع الناس , أو عندما يبدو الداعية كأنه منهزم أمام سائله ومحاوره , فاعلم عندئذ أن ذلك الداعية لم يتعلم شيئا عن طرائق الإفهام والإقناع واساليب توصيل المعلومة للناس وسبل توصيل الرسائل الفكرية للآخرين .. وبأنه داعية منقوص القدرات في مجال دعوته ..
تزيد أهمية الإقناع عندما يكون دور الداعية ليس نصبا على غقناع شخص أو تفهيم فرد من الأفراد موضوعا معينا , بل يكون المطلوب منه خطاب مفتوح لجموع من الناس مختلفة المشارب والأفكار والرؤى والثقافات , إن ذلك يحتاج إلى تدريب وفهم عميق لأساليب الإقناع وفهم فنونه ..
فقد نفهم أن نطلب من متحدث لآخر أن يحصل على ثقته قبل الحديث بعدة أساليب , ولكننا حين نطلب من متحدث أمام جمع من الناس أن يحصل على ثقتهم فذلك شأن آخر يحتاج إلى رؤية مغايرة ..
ثقة العامة في المتحدث إليهم تنشأ من أمرين بالأساس : أولهما طريقة حديثه ومحتواه , وثانيهما سيرته الحسنة - وغير ذلك أمور أخرى لكن هذين السببين أصليان -
أنظر إلى جزالة أسلوب ربعي ابن عامر أمام جمع الجنود والقادة وأصفياء قائد الجيوش الفارسية ..وانظر كم أقنعهم مقاله بقوة معسكر المسلمين وأرعبهم وبث فيهم عدم الثقة في أنفسهم ... لقد اتصف بالوصفين , فالأول حديثه القوي القتّال , والثاني سيرته التي سبقته وهو يستأذن عليه ( فقد كان رستم قد أرسل عينا له ينظر من أحوال معسكر المسلمين فجاءه قائلا ..: رأيت فرسانا بالليل رهبانا بالنهار )
وانظر إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم في موقف خطير مؤثر جداا وحساس إلى أبعد الحدود عندما وجد – حزن - الأنصار في نفوسهم من عدم تقسيم الغنيمة عليهم ..وهاكم الموقف الذي في الصحيح..
( أتاهم الرسول صلى الله عليه و سلم فحمد الله، وأثنى عليه بما هو أهله.. ثم قال: "يا معشر الأنصار؛ مقالة بلغتني عنكم، وجدة وجدتموها على في أنفسكم؟، ألم آتكم ضلالا فهداكم الله؟ وعالة فأغناكم الله ؟ وأعداء فألف بين قلوبكم ؟ " قالوا: بلى، والله ورسوله أمن وأفضل، قال: "ألا تجيبوني يا معشر الأنصار؟" قالوا: بماذا نجيبك يارسول الله؟ لله ولرسوله المن والفضل. قال صلى الله عليه و سلم : " أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصدقتم، أتيتنا مكَذبا فصدقناك، ومخذولا فنصرناك، وطريدا فآويناك، وعائلا فآسيناك , ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير، وترجعون برسول الله إلى رحالكم؟ , والذى نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا، وسلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار"، قال: فبكى القوم حتى اخضلت لحاهم، وقالوا: رضينا برسول الله قسما وحظا "
أي إقناع هذا وأي تأثير ذاك الذي يحول الموقف بهذه الُقدرة وتلك الصولة ؟ لقد هز الكلام الكريم قلوبهم وهدهد مشاعرهم وأقنع عقولهم فلا سبيل لهم إلا البكاء والقبول والرضا .. بل والسعادة
رسالة الإقناع هي موضوعه الذي أنت بصدد أن تحدث الآخرين عنه أو حوله , وهذه الرسالة هي موضوعك ومركز اهتمامك , فلابد أن توليها أنت أيضا جل اهتمامك أثناء وقبل وبعد حديثك ..
فيلزم أن تكون رسالة واضحة جلية لاغموض فيها , فلا تقعر ولا تشدق بألفاظ غريبة أو مندثرة أو بأسلوب شديد هجومي ناقد أو أسلوب تهكمي مستهتر , فقد كره النبي صلى الله عليه وسلم التقعر في الكلام والتعالم في الأساليب كما كره التشدق والسخرية والتعالي على السامعين ..
وأما تكلف الكلام فقد كرهه أيضا الرسول الكريم وقال في الحديث عن ابن عباس " خياركم أحاسنكم أخلاقا، الموطؤون أكنافا، وشراركم الثرثارون المتفيهقون المتشدقون "
فاختر إذن كلمات قليلات بسيطات لرسالتك بحيث تدخل القلوب بلا استئذان ..
وعليك ان تحذرحفرة يقع فيها كثير من المتحدثين والدعاة ..هي خطاب الناس بالمختلف فيه واستثارتهم للحديث والنقاش والجدال حوله ليثبت لهم قوة دليله وضعف حجتهم .. ظنا منه أنهم سيرضخون له , وهو لايدري أنه يبني فيهم جدر البعد عنه ويوقظ فيهم الاستعداء له , فإن المرء لايحب أن يهزم أمام الناس , فإنهم سيظلون يجادلونه حتى ولو علموا أنهم على خطأ ..وقليل منهم من سيقنع .. وإن سكتوا فسيتهمونه بالتعالم وسيبحثون عن غيره للأخذ منه .. احذر إذن الحفرة ولا تتحدث مع مجاميع الناس بماهم مختلفون فيه ولا تجادل مع الناس وهم في أعداد كبيرة ..وليكن هذا الحديث مفردا ..