لا يبقى الإنسان في هذه الدنيا على حال واحدة , فهو في تغير دائم ومستمر , فتارة تصفو فيها نفسه وترق مشاعره وتحلق روحه , فتراه في أحسن حال مع الله تعالى , وتارة تأخذه هذه الدنيا في متاهات دروبها وتعرجات طرقها , فتتعثر منه الخطوات وتكثر الهفوات والزلات , فتضيق نفسه ويقسو قلبه وتتبلد مشاعره .
ولا شك أن المسلم يرجو أن تدوم له ساعات الصفاء والقرب من الله تعالى فلا تنقطع , كما يتمنى أن تزول عنه لحظات قسوة القلب وبعده عن الله تعالى , ولكن دوام الحال من المحال كما يقال .
لقد عبر بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الحالة من خلال رغبتهم استمرار حالة القرب الدائم من الله تعالى , فقد ورد أن حنظلة الأسيدي ( وكان من كتاب رسول الله صلى الله عليه و سلم ) قال : لقيني أبو بكر فقال كيف أنت يا حنظلة ؟؟ قال قلت : نافق حنظلة !! قال سبحان الله ما تقول ؟! قال قلت : نكون عند رسول الله صلى الله عليه و سلم يذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي عين , فإذا خرجنا من عند رسول الله صلى الله عليه و سلم عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرا , قال أبو بكر : فوالله إنا لنلقى مثل هذا , فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه و سلم قلت : نافق حنظلة يا رسول الله !! فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : وما ذاك ؟؟ قلت : يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأى عين فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيرا , فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : ( والذي نفسي بيده إن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات) صحيح مسلم 4/2106 برقم 12
ولا يخلو مسلم في هذه الدنيا من هذه الحالة التي وصفها حنظلة وأبو بكر رضي الله عنهما لرسول الله صلى الله عليه وسلم , كما لا يخلو مسلم في هذه الدنيا من ذنب اقترفه يرجو مغفرته , ومن سيئة ارتكبها يتمنى محوها , فكل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون كما قال صلى الله عليه وسلم .
ومن رحمة الله تعالى بعباده أن فتح لهم باب التوبة والإنابة , وأتاح لهم فرصة الرجوع إليه بعد ارتكاب الأخطاء والذنوب , بل وفرصة تغيير الذنوب إلى حسنات , قال تعالى : { إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا } الفرقان/70 , وهي فرصة عظيمة لم تكن لغيرنا من الأمم من قبل , قال تعالى : { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } البقرة/54
ولا شك أن توبة العبد من ذنوبه وأخطائه تحدث في نفسه تغييرا وأي تغيير , فهو ينتقل من حالة الشقاء التي لاتنفك عن المعصية , إلى حالة السعادة والهناء الملازمة للطاعة والعبادة , وقد جعل الله تعالى لذلك التغيير أوقاتا خصها بعظيم عفوه ومغفرته , وانتقاها لمنحه وعطائه , واصطفاها بمزيد رحمته وفضله , فهي بمثابة الفرصة الذهبية للتغيير المنشود في النفس البشرية .
ولعل من أعظم الأوقات المباركة التي حباها الله تعالى بكثير من النفحات والبركات والرحمات , ما نحن مقبلين عليه من أيام عشر ذي الحجة , تلك الأيام والليالي المباركة التي أقسم الله تعالى بها بقوله : {وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} الفجر/1-3 , والمراد بالليالي العشر عشر ذي الحجة كما قال ابن عباس رضي الله عنهما , ولا يقسم الله تعالى إلا بشيء عظيم كما هو معلوم .
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في فضل هذه الأيام والليالي ومكانتها عند الله : (من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام يعني أيام العشر فقالوا يا رسول الله : ولا الجهاد في سبيل الله ؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ولا الجهاد في سبيل الله , إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء) سنن أبي داود 1/741 برقم 2438 وصححه الألباني .
وإذا أكرم الله تعالى المسلم بالحج إلى بيت الله تعالى في هذه الأيام , فهو فضل عظيم ومنة كبيرة , فأعمال الحج ومناسكه من أفضل القربات والطاعات , ولكن الله تعالى جعل لكل من لم يتيسر له الحج هذا العام أعمالا يقوم بها في هذه الأيام , حتى لا يفوته الفضل ولا تتجاوزه نفحات هذه الأيام المباركة , ولعلي أجمل ما يمكن أن يفعله المسلم في هذه الأيام ببعض النقاط , لعل الله تعالى أن يغفر لنا ويتقبلنا ويكرمنا بالتغيير نحو طاعته وعبادته :
1- التوبة الصادقة النصوح إلى الله تعالى , فإذا كانت التوبة والإنابة إلى الله في كل وقت واجبة , فإنها في الأوقات المباركة أشد وجوبا وأكثر استحبابا وأدعى للقبول , وهي فرصة ومنحة إلهية للتغيير في حياتك فلا تفوتها .
2- الصيام في أيام ذي الحجة التسعة سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم , ولها فضل عظيم وثواب كبير , فقد ورد عن بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَتْ (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَصُومُ تِسْعَ ذِى الْحِجَّةِ وَيَوْمَ عَاشُورَاءَ وَثَلاَثَةَ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ أَوَّلَ اثْنَيْنِ مِنَ الشَّهْرِ وَالْخَمِيسَ) سنن أبي داود 2/301 برقم 2439 وقال الألباني : صحيح .
3- من لم يستطع صوم الأيام التسع فلا أقل من صيام يوم عرفة , فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن صوم يوم عرفة فقال : (يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ ) مسلم برقم 2804 .
4- الإكثار من ذكر الله تعالى بكل أصنافه وألوانه , فقد قال تعالى : { لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} الحج/28 , قال ابن عباس رضي الله عنهما : الأيام المعلومات : أيام عشر ذي الحجة . ابن كثير 5/415
ويستحب الإكثار من التكبير والتهليل والتحميد , فقد ورد في مسند الإمام أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد ) 2/131
أيام وليال مباركة طيبة فلا تدعها تفوتك دون أن تحدث فيها تغييرا في حياتك وعلاقتك مع الله تعالى , فمن المعروف أن هذه الفرصة إذا فاتت فلن تعود إلى السنة القادمة , وهل يضمن أحدنا حياته إلى الغد ؟!!