إضاءات في طريق السعادة الزوجية 2-2
18 ذو القعدة 1434
د. عبد المجيد البيانوني

= 7 =
أنا أنصَحُ كلَّ المُقدِمين على الزواجِ أنْ يُطِيلوا فترة الخطُوبة إِلى ستّة أشهر كَحدّ أعلى، ليتحقّقَ التعارف والتآلف بين الزوجينِ ، ولتطمئنّ المْرَأَةُ على وجه الخُصوص على دين الرجل وَخُلقه، وألاّ تقلَّ تلك الفترةُ عن شهر، على أن تكونَ الزيارات مُكثّفةً خلالَه.. ولعلّ أحد أسباب ارتفاعِ نسبةِ الطلاقِ هوَ التعجّلُ في الخطوبةِ ثمّ في الزواجِ..

وأتوقّع بعد ذلك أن تبحر سفينة الحياة الزوجيّة في محيط الرسوخ والنجاح بعد سنة من الزواج بصورة متوسّطة: إذ تحتاج إلى أربعة أشهر ليفهم كلّ واحد صاحبه، وأخرى ليتقبّل عقليّته ومزاجه، وثالثة ليتحقّق الانسجام والتحوّل.. التحوّل إلى مواقف الطرف الآخر والالتزام بها.. ولكنّ هذه المدّة تعدّ دقيقة حرجة، لأنّ ضعف خبرة كلا الطرفين، بالحياة عامّة، وبالعلاقة الزوجيّة على وجه الخُصوص، يضعهما أمام عقبات متعدّدة، وامتحانات مختلفة، وربّما كان بعضها منزلقاً خطراً نحو نفرة القلوب وفصم عرا العلاقة الزوجيّة.. ومن هنا كان حقّاً على الأبوين من كلّ جهة أن يرعيا هذه الأسرة الناشئة، ولا يتركاها ضحِيّةَ التَجارِب الفجّة، حتّى يشتدّ ساعدها، ويصلب عودها، وتتقن فنّ إدارة الخلاف الأسريّ على أحسن الوجوه..

= 8 =
الزواج ولادة جديدة للإنسان رجلاً كان أو امرأة: وولادة الإنسان لها ظروفها ومتطلّباتها، ورعايتها الخاصّة ولقاحاتها، وشروطها الذاتيّة والموضوعيّة، لاستمرار الحياة الآمنة الكريمة.. وإلاّ نفقد الوليد، أو يكون معوّقاً مشوّه الخلقة، فنعضّ أصابع الندم، ويتحوّل الفرح إلى مأتم..

أنواع ولادة الإنسان:
ـ الولادة الإنسانيّة (ولادة الإنسان ودخوله إلى عالم الدنيا)
ـ الولادة الأسريّة الوجدانيّة (الشعور بالأسرة والانتماء إليها)
ـ الولادة الاجتماعيّة (الاتّصال بالجماعة والانتماء إليها)
ـ الولادة الزوجيّة (الزواج وتكوين الأسرة)
ـ الولادة الحضاريّة ونعني بها: (التأثير الفاعل في الحياة الاجتماعيّة والإنسانيّة، وهي خاصّة بأفذاذ الرجال والنساء).
أفلا يحقّ لنا أن نتطلّعَ إلى هذه الولادة ونتمنّاها، لتلك الأسرة الناشئة في رحاب الإسلام ومحضن الدعوة.؟! أم أنّ أمانينا كتب عليها أن تذبحَ أو تتبخّرَ على أعتاب دنيا رخيصة.؟!

= 9 =
والحقّ أنّ العلاقة بين الزوجين مفهومة غامضة، ظاهرة خفيّة، هي أسمى من أن تكون علاقة بين شريكين، وأعمق من أن ترسم حدودها حقوق وواجبات تقف عندها.. وقد كانت لغتنا الحبيبة دقيقة موحية عندما منحت كلا الزوجين صفة واحدة، فعبّرت عنه بكلمة مشتركة، وهي كلمة:"زوج"، فكأنّ كلا الطرفين شيء واحد، وعبّر القرآن الكريم عن عمق تلك العلاقة، بما قامت عليه من تمازج ووثيق اتّصال، بأسلوب أدبيّ معجز، إذ قال تعالى: (..وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21)) النساء، وليتأمّل كلا الزوجين هذا التشبيه البديع، البليغ المعجز:(.. هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) البقرة. ونحن نعلم أنّ اللباس لا يحقّق غايته إلاّ بشروط أهمّها: أن يكون ساتراً، لا يكشف عورة، وكماله أن يكون سابغاً، يأخذ كلّ عضو منه حقّه، وأن يكون طاهراً، ليس فيه شيء من دنس، وكماله أن يكون نظيفاً برّاقاً، حسناً جميلاً، يزيد الإنسان رونقاً وحسناً.. وأن يكون خاصّاً بصاحبه، ليكمل له استمتاعه به، فالثوب المستعار غصّة في النفس ما كان على جسد مستعيره، وأن يكون اللباس مناسباً لمنزلة الإنسان ومكانته الاجتماعيّة، إذ لكلّ فئة من الناس ما يناسبها من لباس..

= 10 =
يدخل الرجل بيته بعد مواجهة أسباب عديدة للتوتّر والانزعاج والغضب، فكيف تستقبله زوجته.؟ إنّ الواقع يقول: إنّ أكثر الزوجات لا يحسنّ استقبال أزواجهنّ في مثل هذه الحال.. واسمحوا لي أن أقدّم لكم أنواع الزوجات في هذا الباب:
ـ زوجة لا تستقبل زوجها، ولا تحسّ بدخوله، وما هو عليها من حال، لأنّها غارقة في عملها أو مطبخها.
ـ زوجة لا تحسن استقبال زوجها، ولا تحسن الحديث معه:
أ ـ زوجة قد أعدّت قائمة طويلة للحساب والعتاب.. عفواً العقاب..: القدر المشترك بين الكثيرات لماذا تأخّرت.؟ وأين كنت.؟
ب ـ زوجة تزفّ إلى زوجها الأخبار السيّئة: هل بلغك الخبر من مات.؟
ج ـ زوجة عابسة باسرة، مقطّبة مكفهرّة، في هيئة منكرة، تؤثر الصمت، وتنشر المقت، يتلطّف معها زوجها: مالك ! مالك ! فلا يسمع منها إلاّ هجراً،
ولا يجد عندها إلاّ نكراً وكثيراً ما يكون غضبها وانزعاجها الشديد لأتفه الأمور..
ـ زوجة تحسن استقبال زوجها، ولا تحسن الحديث معه
ـ زوجة لا تحسن استقبال زوجها، ولكنّها تحسن الحديث معه
ـ الزوجة الذكيّة العاقلة تحسن استقبال زوجها وتحسن قراءة مشاعره.. وتقدر على تغييرها بسرعة: فهي لا تلبث أن تداويه سريعاً:
فماذا نتوقّع من الزوج أن يكون موقفه بعد ذلك.؟

= 11 =
وإليكم هذا الموقف من بعض الزوجات الفاضلات:
دخل الرجل البيت، فوجد زوجته في بهو البيت وكأنّها تنتظره.. لقد خرجت من المطبخ من فورها.. إنّها تريد استقباله.. فألقى السلام، وعلى وجهه علامات الغضب والانزعاج، فردّت زوجته السلام، وقالت له: خيراً.! مالك.؟! ابتسم من فضلك..
ـ دعيني في همّي.!
ـ وما ذنبنا نحن لتحرمنا من ابتسامتك الحلوة.؟
ـ أرجوك دعيني.!
ـ لا أدعك حتّى تبتسم.. نحن بشوق لابتسامتك.. وتنفرج أسارير الزوج، ولكنّه لا يستطيع الابتسام.."يبدو أنّه واجه موقفاً صعباً هذا اليوم.."
ـ يا هالة ! يا حبيبتي ! أضحكي أباك لأعطيك هديّة !
وتقترب البنيّة المدلّلة من أبيها، وتمدّ يدها لتسلّم عليه كما علّمها، ولكنّه عندما يمدّ يده تهرب منه، فلا يتمالك نفسه إلاّ أن يضحك، ويقول لها:"لقد لعبت عليّ يا هلّولة !"، وتقترب مرّة أخرى، وتمدّ يديها كهيئة المستجدي:"يا بابا ! يا كريم ! نحن مساكين فتصدّق علينا !"فيضمّها إليه، ويعتنقها، وهو يضحك، وتنفرج أساريره..
ـ مرحى لك يا هالة ! لقد كسبت الهديّة..
وأؤكّد لكم أنّ هذا الموقف من"هالة"ليس وليد هذه الساعة، وإنّما هو ثمرة تربية سويّة، تربّت عليها هذه الفتاة بنت الرابعة من العمر فحسب.! فكان لها دورها الفاعل، وتأثيرها الحيويّ في بثّ السعادة في أرجاء البيت..
لقد تعلّم هذا الزوج والأب أن يحسب حساباً لهيئته عندما يريد دخول البيت ! لأنّه في الأحوال الطبيعيّة يدعو زوجته وأولاده إلى أن لا يرى الآخرون منهم دائماً إلاّ الابتسامة المشرقة العذبة، فكيف لا يكون أسوة حسنة لهم.؟

= 12 =
بين حقّ الأبوين وحقّ الزوج:
لامراء أنّ حقّ الوالدين في البرّ أوجب الحقوق وآكدها، وعندما تتزوّج المرأة يصبح حقُّ زوجها بالمعروف مقدّماً على حقّ أبويها، وحقّ أبويه عليه لا ينقص بل يزيد، وتلك قضيّة لا خلاف فيها ولا جدال.. وذلكَ لتقوم الأسرة على أقوى الأسس وأرسخها، وتأكيداً لذلك وتوثيقاً تقول السيّدة عائشة رضي الله عنها:"يا مَعشرَ النساءِ ! لو تَعلمنَ بحقّ أزواجِكنّ عليكُنّ لجعلَتِ المرأةُ مِنكُنّ تمسَحُ الغُبارَ عَن قَدَمي زوجِها بحرِّ وجهِها"([1]).
وإنّ المرأة المسلمة المثَاليّة تعرف هذا الحقّ وتعترف به وتقدّره، والرجلُ المثاليّ لا يستغلّه، ولا يكون سبب سوء خلقه، وشطط مُعَاملَتِه.!

= 13 =
وفي رحلة الحياة الزوجيّة الهانئة يدخل القطارَ البنون والبنات، وتدخل معهم حياة تختلف عن الحياة الماضية في أمور عديدة، بدءاً من التسمية، وما تحمل من أعباء المسئوليّة، ومروراً بالعلاقات الجديدة.. وبدءاً وانتهاءاً بمسئوليّة التربية، والأعباء التي يلقيها على الوالدين بناءُ الإنسان وتكوينُه وإعدادُه.. فالزوجان يصبحان مع إطلالة المولود الأوّل أباً وأمّاً، وهما في هذا الباب أغرار مستجدّون، ومهما قرءوا من الكتب في هذا الباب، وتعلّموا ودرسوا فالمبادئ النظريّة، والخبرة العمليّة قلّما يعيها الإنسان، ويقدّر أبعادها إلاّ من خلال التجربة الذاتيّة.. وربّما زاد الهوّة اتّساعاً بين الطرفين عندما يحمل أحدهما أو كلاهما أفكاراً نظريّة برّاقة، يظنّها مسلّمات قطعيّة، يتحمّس لها، ويخاصم عليها صاحبه، وربّما لا تقف على قدميها لحظة أمام أيّ اختبار عمليّ..
وربّما تنجح الفتاة زوجة، وتخفق أمّاً، وربّما ينجح الشابّ زوجاً، ويخفق في الفترة الأولى على الأقلّ أن يكون أباً.. وربّما يدخل الأطفال حياة الزوجين السعيدين، فيدخل معهما النكد والاختلاف، ويكون الاختلاف في منهج التربية وأسلوبها سبباً لسوء التربية وفساد عاقبتها.. وكلّ ذلك يدلّ على هشاشة البناء، واختلال أسسه.. أفليس الزوجان إذن بحاجةٍ ماسّة إلى أسسٍ وقواعد، وأصولٍ ومبادئ، ليتهيّآ لاستقبال الأطفال، ليكوناً قدوة مثلى لهم، وليكون تعاملهم معهم نهجاً سويّاً، ولتبقى علاقاتهما على أحسن ما تكون، إذ إنّ حاجة أطفالهما إلى ذلك لا تقلّ عن حاجتهم النفسيّة إلى دوام السكينة، وزيادة المودّة والرحمة..

= 14 =
ولابدّ أن يكون بين الزوجين قدر مقبول من الانسجام الروحيّ، والتوافق النفسيّ، التوافق الذي يقوم على الالتقاء على المنهج، والتقارب في الأخلاق والأفكار والأهداف، ممّا يقدّم أرضيّة مناسبة للتعامل مع هذه الأسس والمبادئ بجدّيّة وفاعليّة، ويكفل حلّ المشكلات بأسرع ما يمكن..

----------------

([1]) ـ رواه ابن حبّان في صحيحه، والبزّار بإسناد جيّد، رواته ثقات مشهورون، انظر أحكام النساء لابن الجوزيّ ص/311/.