العشر الأخير والأسواق
17 رمضان 1437
د. عامر الهوشان

إذا كان شهر رمضان الكريم هو موسم العبادة والطاعة وفعل الخير , فإنه في نفس الوقت موسم التجارة والربح , موسم البيع والشراء عند أصحاب المصالح والبضائع , وإذا كان البيع والشراء وحركة التجارة بشكل عام تزداد من أول رمضان , فإنها في العشر الأخير منه تصل إلى ذروتها وقمة نشاطها , نظرا لقرب انتهاء رمضان ودنو أيام عيد الفطر السعيد .

 

 

والناظر للأسواق في مثل هذه الأيام , يكاد يجزم بخلو البيوت من سكانها , نظرا لشدة الزحام الذي يراه , بحيث لا يكاد السوق يتسع لمزيد من الوافدين أو الزائرين , الأمر الذي يبدو متعارضا مع ما هو مطلوب في هذه الأيام المباركة , من الاعتكاف والتفرغ للعبادة والطاعة المستحب في العشر الأخير من رمضان , كما هو معروف ومشهور من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله .

 

 

فقد ورد عن السيدة عَائِشَةَ رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: ( كَانَ رَسُولُ اَللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - إِذَا دَخَلَ اَلْعَشْرُ -أَيْ: اَلْعَشْرُ اَلْأَخِيرُ مِنْ رَمَضَانَ- شَدَّ مِئْزَرَهُ, وَأَحْيَا لَيْلَهُ, وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ ) متفق عليه , وورد أيضا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يترك الاعتكاف في العشر الأخير من رمضان , وقد كان يفعل الأمر – من النافلة والسنة – ويتركه , فقد ورد عن السيدة عائشة رضي الله عنها (أَنَّ اَلنَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَعْتَكِفُ اَلْعَشْرَ اَلْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ, حَتَّى تَوَفَّاهُ اَللَّهُ, ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِنْ بَعْدِهِ ) متفق عليه

 

 

فما هو الحل بالنسبة للبائع والمشتري في مثل هذه الحالة ؟؟!!

 

 

بداية لا بد من التأكيد بأن الاعتكاف سنة وليس فرضا , إلا أنه سنة مؤكدة لم يتركها رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى وفاته , بينما فعل بعض السنن الأخرى وتركها , مما يدل على أهميتها في حياة المسلم , خاصة إذا كان تاجرا أو صاحب أعمال , فأمثال هؤلاء قد ينشغلون طوال العام بأعمالهم وتجارتهم , ولن تكون هناك فرصة أثمن من هذه الأيام العشر للاعتكاف والتفرغ لبعض الطاعة والعبادة , فإن ضيعوها فقد لا يتمتعون بحياة متوازنة بقية العام , وأقصد بالتوازن هنا التوازن الروحي العاطفي , النصف المكمل للمادي والجسدي , فكما أن للتجارة الدنيوية موسم لا يمكن تدارك خسارته إذا ضيعه التاجر , فكذلك للقلوب والأرواح مواسم , إذا ضيعها تجار الآخرة , فالخسارة والندامة أكبر وأشد .

 

 

والآن يمكن أن نضع بعض النقاط التي قد تساعد الجميع على التفرغ ولو جزئيا للاعتكاف والتفرغ للطاعة والعبادة في هذا العشر الأخير من الشهر الفضيل :

 

 

1- لا بد أن نعلم بداية أن الغنم بالغرم , وأن المسلم لا بد أن يضحي بشيء من الدنيا للحصول على رضا الله في الآخرة , وأن الجنة حفت بالمكاره , وأن النار حفت بالشهوات , فطبيعي أن يضحي المسلم ببعض المكاسب الدنيوية من أجل المكاسب الأخروية , وإن كنت أجزم بأن من قدم طاعة الله تعالى على مكاسب الدنيا المادية , عوضه الله تعالى خيرا في الدنيا والآخرة .

 

 

2- لا بد أن نعترف بأننا وحدنا نتحمل مسؤلية تلك العادات السيئة التي لازمت حياتنا طوال الفترة السابقة , وأنه يمكن ببعض الوعي تبديل تلك العادات والتقاليد , فمن قال أن أمتعة العيد وحاجياته من ثياب وحلوى وما شابه , لا يمكن إحضارها إلا في أيام العشر الأخير من رمضان . ألا يمكن شراء تلك الحاجيات قبل أن يدخل رمضان أصلا , ليكون استقبالنا لرمضان بأكمله خاليا من أي مشاغل أو مسؤوليات , ناهيك عن العشر الأخير منه , ألا يمكن أن ينشء المسلمون أمثال هذه الظاهرة الصحية , التي تجعل من رمضان موسما للطاعة والعبادة والرجوع إلى الله , والبعد عن الأسواق إلا للحاجيات اليومية الضرورية .

 

 

3- من المعلوم أن السوق تتفاعل إيجابا وسلبا مع قانون العرض والطلب , فما دام الطلب على الملابس والحلوى والحاجيات وغيرها من لوازم العيد يزداد قبل العيد بأيام , أي في العشر الأخير من رمضان , فإن الأسعار لا بد أن تزداد , كما أن التاجر سينشغل أكثر فأكثر في سوقه ومتجره , مما يدخل الجميع في دوامة السوق والدنيا , والانشغال عن الاعتكاف والعبادة . ولا بد لحل هذه المشكلة من التفعل العكسي مع قانون العرض والطلب , أي بتقليل الشراء في هذه الأيام , مما ينقص من الطلب , الأمر الذي يعني نقصانا في الأسعار , وتفرغ التجار وأصحاب المحلات والعاملين فيها للاعتكاف ولو جزئيا للطاعة والعبادة .

 

 

4- بما أن عادات الأمم والشعوب لا تتغير بين ليلة وضحاها , بل تحتاج إلى سنوات وربما عقود – حسب درجة إدراكها ووعيها وتفاعلها – فلا بد من إيجاد حلول مبدئية لأولئك الذين يريدون أن يعتكفوا ويتفرغوا للطاعة والعبادة في العشر الأخير من رمضان , ولكنهم لا يستطيعون بفعل ارتباطهم بأعمالهم وتجارتهم , التي تزداد في تلك الأيام , فماذا يفعلون ؟؟!! يمكن لأمثال هؤلاء أن يتبعوا واحدا من أمرين اثنين : ·

 

 

إما أن يضحوا بمكاسب الدنيا مقابل مكاسب الآخرة كما أوضحنا في النقطة الأولى , متبعين ما ورد في الأثر : (ما ترك عبد الله أمرا لا يتركه إلا لله إلا عوضه الله ما هو خير له منه في دينه ودنياه ) ابن عساكر من حديث ابن عمر مرفوعا , الدرر المنثورة للسيوطي 1/19 ·

 

 

وإما أن يتبعوا أضعف الإيمان في الاعتكاف , وهو ما يسمى بالاعتكاف الجزئي , أي أن يقتطعوا وقتا من أعمالهم , والأفضل أن يكون ليلا في مثل هذه الأيام , للتفرغ لصلاة التراويح والليل , وللدعاء وتلاوة القرآن والذكر , بينما يكون النهار للعمل .

 

 

إن الفرص الذهبية التي تمر بالمسلم للتوبة والإنابة والاصطلاح مع الله قد لا تتكرر , فمن يدري لعل الواحد منا لا يدرك رمضان القادم , بل ربما لا يدرك بقية هذه الأيام المباركة العظيمة التي نعيشها الآن , فالدنيا لا تستأهل منا كل هذا العناء والوقت والجهد , بينما تستأهل الآخرة منا التضحية والإيثار والاغتنام , فهلا اغتنمنا هذه الأيام المباركة !! وهلا شمرنا إلى الجنة ؟؟!!