يستعمل الناس الحوار بينهم لتوصيل الرسائل المختلفة منهم وإلى بعضهم بعضا , وصولا لنوع متقدم من التواصل , يتم على اساسه تقريب الرؤى ووجهات النظر
والغاية من الحوار في الأفكار إقامة الحجة ودفع الغلط في الفهم , تبيين المقصود , ودفع الشبهة , فهو إذن نوع حضاري من التواصل بين الناس يتعاون فيه المتحاورون ليكشف كل طرف عن خفي مقصوده أو ليوصل للآخر صدقية رؤيته .
يقول الحافظ الذهبي :" إنما وضعت المناظرة لكشف الحق وإفادة العالم الأذكى العلم لمن دونه وتنبيه الأغفل الاضعف " شرح المواهب الزرقاني
ولاستمرار الحوار ينبغي على الأطراف القناعة بعدة مبادلات ومواصفات اثناء الحوار ,,
فمن ذلك إمكانية الوصول إلى حل وسط , يستطيع معه – إن تم إقناعه – برؤية الآخر – أن يعدل من ريته بشكل متوسط , لا بتمام الرجوع عنها .
كذلك يكون عنده استعداد للتنازل عن رأيه والعودة عنه إلى الرأي اللآخر إن تبين له خطؤه , كما هو منقول عن الشافعي في آداب الحوار ( قولي صواب يحتمل الخطأ , وقول غيري خطا يحتمل الصواب ) , فاحتمال العودة إلى الآخر من كليهما وارد , وقول الأئمة :" كل الناس يؤخذ من كلامهم ويرد إلا النبي صلى الله عليه وسلم "
كذلك فإن التعرف على الرؤى ووجهات النظر الأخرى هو فائدة ومبادلة إيجابية للحوار , فإن كثيرا من اصحاب الأفكار يسعى لأن يصدر رؤيته وحده للآخرين , ويتناسى في بعض الأحيان أن هناك رؤى مغايرة , لدرجة أن هناك بعض الكتاب والمؤلفين يكتبون فينتقون في نقلهم راي العلماء من قبلهم , فيخفون الرؤى التي تخالفهم ويبرزون الدلائل التي تؤيد رؤيتهم , وقد رأيت ذلك مرارا من فعل بعض المؤلفين , وهو نوع من عدم الأمانة في نقل العلم .
آخرون يتعمدون الإقصاء المقنع للأفكار المغايرة لفكره , وينتشر ذلك عند بعض المتبوعين إذ يريد أن ينشر قوله مغفلا القول المخالف , وواصما المخالف له بالنقص والانتقاص , رافضا الحوار معه , وإذا حاوره علت صرخاته ومثالب حواراته .
وطبائع الناس عادة هو الخلاف والاختلاف , قال سبحانه :" ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولايزالون مختلفين " , فقد خلقوا مستعدين للخلاف والاختلاف والتفريق في علومهم ومعارفهم وآرائهم ومشاعرهم , وما يتبع ذلك من إراداتهم واختيارهم في أعمالهم ومن ذلك الإيمان والطاعة والمعصية .
والحقيقة فإن الحق واضح جلي , ومن أخلاق الإسلام البحث عنه , فالصواب ضالة المؤمن والحكمة هى ما يبحث عنه , فإن وجدهما أخذهما اينما كانا , فمهما كان خلاف الناس فإن الحق واضح جلي و كما في قوله سبحانه :" فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه " , فالله سبحانه يهدي إلى سواء السبيل , والقلوب إذا صدقت هداها الله سبحانه , ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم " اللهم اهدنا لما اختلف فيه من الحق "
لكل ما سبق فإن الحوار يمثل سببا إيجابيا من اسباب الوصول للحق , ومن جميل أخلاق الحوار أمور مختلفة , فمنها :
أن يبدأ الحوار مع مخالفه بالمتفق عليه معه , فإنما ذلك يكون فاتحا لشهية المحاورة , ومكسبا للقارب , ومبعدا للبغضاء والكراهية
كذلك منها توضيح مناط الحوار ومناط الاختلاف ومحاوره , والاتفاق عليه , فإنه يقي من كثرة الجدل وكثرة المداراة في الكلام وطول البسط فيه
ومن ذلك بيان أهم الدلائل التي تستند عليها فكرتك , وطريقة فهمها , وما تستند إليه من ذلك , فإن ذلك يقوي موقفك ويريحك كثيرا اثناء المحاورة , فإن كنت ناقلا فتذكر دلائل الصحة , وإن كنت مدعيا لفكرة فعليك بالدليل .
ومنها صدق النية في الحوار , بل يتقدمها صدق النية , وأذكر ههنا قول الشافعي رحمه الله :" وددت لو أن هذا العلم تعلمه الناس ولم ينسب إلينا شىء منه " .. دلالة على النقاء والشفافية وحسن النية في رجاء ثواب الله سبحانه
ومن ذلك ايضا الاتفاق على المسلمات والمنطلقات والثوابت , فإن ذلك ييسر الوصول للإقناع , وتعديل الفكرة المقابلة .
وبالعموم, ليس كل امرىء هو رجل الحوار , أو يصلح للحوار , فمن الخطأ أن يدافع عن الحق من ليس بأهله , فإنه ينقصه ويقلل قدره , فالعلم شرط من شروط الحوار , وأفضل مافي ذلك التخصص ودقة المعرفة .