الاغتراب وشكوى الزوجة
27 رجب 1434
يحيى البوليني

هل تأخذك الغربة مني ؟.. سؤال يتردد كثيرا داخل كثير من الزوجات الوحيدات منذ بدء خروج الرجل للعمل مغتربا تاركا زوجته وأبناءه في بلده , ويظل السؤال معلقا حتى عودته مرة أخرى .
فيتردد صداه في نفسها كل يوم بل ربما كل ساعة , وتعتبر كل تصرف يومي من زوجها – إن كان هناك اتصال – داعما للفكرة التي تعتمل في رأسها أو نافيا لها , فما أحوج كل زوج لزوجه , وما أشد عناء الحياة إذا غاب الرجل عن بيته وأبنائه , وما أشد تأثير السفر الكثير والمتكرر على الأسر من النواحي التربوية والنفسية والعملية .

ويعظم تأثير غياب الزوج والأب على أسرته في ظل انفراد كل زوج بزوجه في مسكن مستقل كأسلوب حياة أضحى هو الأصل في زيجاتنا الحالية , وصار واقعا اجتماعيا مؤلما لابد وان نتعامل معه , فيندر أن يتزوج الولد في مسكن مع أسرته الكبيرة , وبهذا يصعب على الزوجة بعد سفره التأقلم على حياة في بيت حميها ولا حتى في بيت أهلها بأبنائها , فيتضاعف أثر الاغتراب على الزوجة والأبناء ليعيشوا جميعا تحت وطأة الغربة ولأوائها , ويصبح الكل مغتربل غربة تختلف قليلا عن الآخرين , ولكن يجمع بينها الألم كعامل مشترك لهم , وتكون هذه الآثار السيئة هي الثمن الباهظ المؤلم الذي يدفعه كل مغترب وأهله في سبيل تحسين حالتهم المادية .

وحال المغترب وأسرته كحال المستجير من الرمضاء بالنار , فما أمر العوز والحاجة , وما أعظم الثمن الذي يدفع للخروج من شرنقة الفقر , فكلاهما أمر من صاحبه .

وبينما تعاني الزوجة والأبناء من آثار غربة الزوج والأب , ولكي نضع الأمور في نصابها ونعطي لكل ذي حق حقه , يتألم الزوج بدرجة ربما تكون في بعض الأحيان أكبر , لكنها غير محسوسة ولا ملموسة بنفس الدرجة , فالرجل – في الغالب – لا يميل إلى الشكوى ولا يحب إظهار الضعف والألم مهما شق عليه ما هو فيه , فبينما يعاني نفس معاناة الزوجة والأبناء في فراقهم وعدم الأنس بهم والراحة بجوارهم يعاني معاناة أخرى قد لا تعلم عنها الزوجة شيئا ولا يريد من الأساس إخبارهم بها , فلكل بلد ظروفه وقوانينه وأسس تعامله وطباع أهله التي تختلف بدرجة ما عن ظروف بلد الزوج وقوانينها وأسس تعاملها وطباع أهل بلده التي اعتاد عليها ويعرفها جيدا , ويرى الزوج أنه من تمام رعايته لأسرته - التي سيسأله الله عنها - أن يحاول التوافق والتأقلم على ما استجد في حياته بكل ما فيها من غريب عليه حتى لا يقع في ما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم من الإثم " كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ " [1] .

والغريب بكل حال ضعيف , والغربة أصل من أصول الضعف , فكما قال صاحب الظلال رحمه الله في معرض قصة موسى عليه السلام في مدين " وسقي لهما وهو غريب والغريب ضعيف مهما اشتد " , فيجتمع على الزوج آلام مفارقته لزوجه ولأبنائه ولوطنه ولأحبابه , ثم يُطلب منه - في نفس الوقت - أن يتأقلم مع وضع جديد بأسس جديدة مصطحبا ضعفه كغريب الذي ربما يُستغل من قبل بعض ممن يتعامل معهم , فتزيد آلامه مع عجز عن اتخاذ بعض قرارات في حياته , فيتقبل أمورا يعلم يقينا من نفسه أنه لو كان حرا طليقا مالكا لأمره ما قَبِلها .

وربما يهون كل ذلك عليه ويَسهُل وكثيرا ما يتحمله بعد فترة , ولكن الأكثر ألما ومشقة عليه هو أنه لابد عليه أن يقوم بما هو واجب في حقه , أن يبث الأمل ويزرع البسمة ويعيد البهجة ويحتوي نفسيات زوجته وأبنائه ليشعرهم أنهم لم يفقدوه وانه متواصل معهم وموجود في حياتهم , وأن غيابه عنهم مجرد وقت طارئ في حياتهم , والحق أن قليلا من الرجال من يقومون بكل هذه الواجبات بلا تقصير , مع فهمنا وتقديرنا لأسباب ذلك التقصير .

وعلى أي حال فقدر الرجال دوما تحمل الآلام , وما الرجل بلا تحمله لمسئولياته بآلامها , ولكن الأمر يستوجب وقفة في حق الضعيفة التي لا تجد لها بابا يفتح للرجاء والسعادة إلا مع زوجها الذي غاب عنها , فوجدت نفسها بين عشية وضحاها في مهب الريح تتقاذفها يمنة ويسرة بمسئولية لم تعتدها وبمشكلات لم تألفها وخاصة عند تقدم سن الأبناء وكثرة مشكلاتهم النفسية والمادية .

فتتألم الزوجة كل يوم بآلام مختلفة ومتنوعة , منها :

أولا : التأثير السلبي المادي لعدم الاتصال الزوجي المشروع
هناك تأثير مادي جسدي سلبي شديد لابتعاد الزوجة عن زوجها لا يمكن إنكاره ولا إهماله ولا تجنب ذكره , فهو أصل من أهم منافع الزواج وأسبابه ونتائجه , ففيه الإحصان للزوجين معا وخاصة في ظل عصر محموم بإثارة الغرائز والشهوات في كل مكان وبكل وسيلة , وينتج عن فقده وغيابه من المعاناة الكثير لكليهما معا وربما يكون أثره السلبي على الزوجة أكثر من الزوج رغم ظن الكثيرين عكس ذلك , ويكفينا فيه ما قرره أمير المؤمنين عمر حينما " خرج عمر بن الخطاب من الليل فسمع امرأة تقول:
تطاول هذا الليل واسود جانبه وأرقني أن لا خليل ألاعبه
فوالله لولا الله أني أراقبه لحرك من هذا السرير جوانبه
فسأل عمر ابنته حفصة: كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت: ستة أشهر، أو أربعة أشهر، فقال عمر: لا أحبس أحداً من الجيوش أكثر من ذلك " [2].

ثانيا : التأثير المعنوي
لا تحتاج الزوجة لزوجها لإشباع رغباتها المادية فقط , بل تحتاجه بجوارها يدعمها ويقويها ويساندها في أزمات حياتها ويحتويها نفسيا وعاطفيا , فالزوجة تحتاج من زوجها لجلسات مطولة منه ليستمع إليها حتى لو لم يقدم حلولا لما تشتكي منه , فيكفيها منه أن يستمع لكل كلماتها فتفرغ طاقتها وتجدد نشاطها وتزداد قدرتها على مواجهة الصعاب والمشكلات .

وغياب جلسات الاستماع هذه تضع الزوجة في صراعات داخلية تشتد عليها بمرور الوقت وتحتاج بالقطع إلى تفريغها مع زوجها , فهو موطن سرها وأنس حياتها , وتكمن هنا عند فقد هذا الاحتواء من الزوج خطورة ليس بعدها خطورة على الزوجة بالذات , فذئاب المجتمع بواقعيه الحقيقي والافتراضي لا يحصون من كثرتهم , وكلهم مستعد للتعاطف والاستماع , وكلهم مستعد لإظهار المساندة وإعطاء الدعم واظهار الشفقة والاهتمام , ولكنهم كلهم بلا استثناء سيطلبون المقابل , وما أصعب المقابل وما أشقه حينما يُدفع من تدين الزوجة وتقواها لله ومن استقرار الأسرة وتماسكها , ولا يحسب رجل إن ترك زوجته وحدها نهبا لهؤلاء الذئاب أنها ستقاوم ولن تتعثر , فالأمر سيكون تدريجيا وببطئ شديد , ولكن إن طال تقصير الزوج لن يكون محالا , وما يمنع منه شئ قط إلا تقوى الله ومراقبته كما قالت من سمعها عمر رضي الله عنه .

ولقد يَسرت التقنيات الحديثة الموجودة حاليا أمر الاتصالات , فأصبح بالإمكان أن يكون الزوج على علاقة يومية بل ومباشرة طيلة اليوم مع زوجته وأبنائه بالكتابة والصوت والصورة , وبإمكانه متابعة كل حادث يطرأ على أسرته مهما كان صغيرا أو تافها , ويمكنه مشاركتهم كل رأي ومناقشة الأفكار في يسر وسهولة , ولكن لابد من العلم أن هذا الباب – الانترنت - أيضا له خطورته التي ذكرناها .

وهناك عدة نصائح للزوج والزوجة لكي يتفادى كلاهما فقدان الآخر معنويا حتى وإن ظلت العلاقة الزوجية قائمة بينهما , وحتى لا تصل العلاقة بينهما بعد حرارة كبيرة إلى برود وجفاء وانفصال معنوي , ويصبح الزوج عبارة عن مخزن مالي متنقل وتصبح الزوجة عبارة عن التزام ثقيل على نفس الزوج وتؤدي مهمتها كمربية لأبنائه في غيابه فحسب , ومن هذه النصائح :

- الحرص بداية من الزوج والزوجة على عدم الافتراق سواء في بلدهم أو في بلاد السفر , وليكن السفر بالأسرة مجتمعة هو أول الاقتراحات أو هو الهدف المنشود ليعود التئام الأسرة بأسرع ما يمكن , ولتكون الوحدة في الغربة هي الأمر الاستثنائي الذي يمر عابرا .

- إن لم يكن هناك بد من الافتراق , فليكن الغياب لفترة اقصر من المعتاد حتى لو كلف تكاليف مالية زائدة , حتى لا يكون غياب الرجل عن أسرته أمرا واقعا ومسلما به ومقبولا لجمع المال , ثم يُخشى أن يصل إلى أن يكون أمرا مطلوبا من الزوج الابتعاد والسفر .

- لابد من تامين أمر الاتصال اليومي وخاصة في ظل التقنيات الحديثة , ولابد أن يدبر الزوج وقتا كافيا ليتحدث فيه مع زوجته وأبنائه بصورة شبه يومية لكي يكون على صلة بهم لا تنقطع ولكي لا يشعروا بغيابه عنهم ولا يعتادوه .

- سمعت بعض من ينصح الأزواج بعد ذكر المتاعب بينهما لكي لا يمل كل منهما حديث الآخر ويزهد فيه , ولكني أرى أن ينقل كل منهما لزوجه ما يشعر به من فرح وسعادة ومشكلات أيضا , فمن يسمعهما إن لم يستمعا لبعضهما , ومع من يتركان سرهما ويدفنان أحزانهما إذا لم تتسع صدورهما كزوجين لها , ولقد رأينا من موقف من هما خير من كل أزواج الأرض موقفا يدل على ذلك , حيث ذهب النبي صلى الله عليه وسلم مسرعا إلى أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها ليبثها شكواه ولتخفف عنه , وفعلت رضي الله عنها أصوب فعل للزوجة فقالت له من الكلمات الطيبات النافعات ما يثلج صدره ويهدئ روعه .

- وعلى الزوجة أن تتفهم موقف زوجها وان تنتبه لردود أفعالها معه , فان كان في لحظة ضيق وحدثها انه يريد العودة وإنهاء العمل فلا تتحامل عليه وتتهمه بالضعف وعدم التحمل فان ذلك يؤلمه أكثر من الآم ما يعانيه , فتوصيه بالصبر وتخبره بشكرهم له وثنائهم عليه وتؤمله بالفرج , ويجب عليهما أن يتبادلا الدعم , فإذا حانت لحظة ضعف منها يساندها وهي كذلك حتى يعبرا هذه المواقف المؤلمة ويجتمع شملهما .

إن أسوا ما يمكن أن يعانيه الزوجان هو ابتعادهما عن بعضهما , فالشرع الحنيف لم يسمح بافتراق الزوجين حتى ولو كانا في فترة انفصال أثناء العدة الشرعية , فاجتماعهما في مكان واحد يسمح دوما بتقاربهما وعودتهما لحياتهما الزوجية , فكيف بالتأثير الشديد للانفصال المكاني لمدة عام أو أكثر على علاقات زوجية ربما لم تثبت قواعدها بعد ؟؟

------------------------------
[1] أخرجه أحمد (14 / 180) ، وأبو داود، برقم (1694) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو
[2] رواه الإمام مالك في الموطأ عن عبد الله بن دينار , رواه عبد الرزاق في مصنفه