إلى النازفين في سوريا ... ثبت الأجر وقرب النصر
29 جمادى الثانية 1434
د. خالد رُوشه

كل يوم يحمل لنا أشكالا من العذاب لإخواننا وأحبابنا في سوريا , كل يوم يحمل مقطعا فيلميا أو خبرا أو صورة أو حتى حكاية الناس , كل ذلك ينزف أمام عيني يوميا بشكل يدميني أنا ايضا ..
إن النزف صار علامة علينا جميعا , في أيام صار نزف الأطفال والنساء كأنه ماء زلال عند الساسة المسلمين الذين لايحركون ساكنا , وعند الغرب الذين لو رأوا نزفهم " بترولا " لا دما , لكانت حركاتهم أكثر اهتماما واشد تأثيرا أضعافا مضاعفة !!

ألوان من العذاب يتجرعها المسلمون في سوريا لم يسبق أن رايناها , فقط كنا نسمع عن أمثالها في روايات تعذيب الاصحاب في رمضاء مكة على يد مشركي مكة , بل إن مشركي مكة ما قتلوا عشرات الآلاف كما فعل هؤلاء !

هذه الحال , مع تزايد الدعم الخارجي لجيش شبيحة بشار قد تلقي في قلوب الصالحين الوهن , قد يستثقلون الزمن , قد ينوؤون بالحمل الثقيل ..

من أجل ذلك أردت أن أذكرهم بأن الله سبحانه حي لايموت , وبأن الحياة الآخرة هي الحياة الحقة , وبأن الدنيا زائلة لامحالة عن قريب جدا , وبأن وعد الله سبحانه متحقق ولاشك , فقط نري الله منا عزيمة القلوب , وثبات النفوس , وسلامة الصدور إيمانا به سبحانه وتوكلا عليه وصدقا معه عز وجل

إن العزم والإرادة والتصميم قادرون على إخراج قوة من الجسد الضعيف لايتوقعها أحد ولا ينتظرها أحد حتى صاحب الجسد ذاته , فما بالك لو كان ذلك العزم موصولا بالله القادر العظيم ومباركا من العزيز الحكيم !

إن العزيمة عمل قلبي بالأساس ، وإذا فقد القلب عزمه خارت قوى الجسد مهما كان قويا ، وقد تكون قوة الأعضاء متواضعة ضعيفة ولكن تقويها عزيمة القلب وتصلبها إرادته ويدعمها طموحه .

إن القلوب لهي صاحبة القول النهائي في المواقف كلها ، ولابد من همه القلب قبل همة الأعضاء ليمر المرء بنجاح عبر المآزق والأزمات .

والمرء قد يبلغ الدرجات العلى بهمه قلبه ، حتى قبل أن تصل إليها جوارحه وأعضاء جسده , يقول صلى الله عليه وسلم في حديثه : " من هم بحسنه فلم يعملها ، كتبها الله عنده حسنه " البخاري . وقال فيمن تجهز للقاء عدوه ، ثم أدركه الموت : " قد وقع أجره على قدر نيته " النسائي .

وقال في حق الذين تخلفوا عن صحبته في تأمين حدود الدولة الإسلامية – في غزوة تبوك – من الذين حبستهم الأعذار ، " إن بالمدينة لرجالاً ، ما سرتم مسيراً ، ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم ، حبسهم العذر " متفق عليه

بل إن الأمر في رؤية الإسلام يفوق ذلك ، إنه يسري حتى في العبادة بين الإنسان وربه فيقول صلى الله عليه وسلم في حديثه ، " مامن امرئ تكون له صلاة بليل ، فغلبه عليها نوم إلا كتب له أجر صلاته ، وكان نومه صدقة عليه " أبو داود

بل قد يتفوق المؤمن الفقير بهمته العالية على الغني كثير المال كما في قوله صلى الله عليه وسلم : " سبق درهم مائة ألف درهم " ، قالوا : يا رسول الله ! كيف يسبق درهم مائة ألف ؟ " ، قال : " رجل كان له درهمان ، فأخذ أحدهما ، فتصدق به ، وآخر له مال كثير ، فأخذ من عرْضها مائة ألف " أخرجه أحمد .

فلكأن الطريق إنما يقطع بقوة العزيمة وعلو الهمة وتصحيح النية ودفق الطموح ، وأن عملاً قليلاً قد يصل صاحبه بعزمه ونيته إلى أضعاف مضاعفة مما يقطعه قليل العزيمة ضعيف النية ..

إن المنهج الإسلامي ليعلم الناس أن عزيمتهم الصادقة تذهب مشقة الطريق ، كما يعلمهم أن ضعف العزائم من ضعف حياة القلوب ، وأن القلوب كلما كانت أتم حياة ، كانت أكثر همة وعزيمة ، وكما أن عزيمة القلب هي دليل على حياته ، فإنها في ذات الوقت سبب إلى حصول حياة أكمل وأطيب , فإن الحياة الطيبة إنما تنال بالهمة العالية ، والمحبة الصادقة ، والإرادة الخالصة ، فعلى قدر ذلك تكون الحياة الطيبة ، وأخس الناس حياة أخسهم همة ، وأضعفهم محبة وطموحاً

إن الذين يربطون جهدهم بتحقيق إنجازات محدودة فحسب ، يصيبهم الخور كثيرا , ففي كل فترة يحتاجون إلى بداية عزم جديد ، وقد تنكسر منهم عزائمهم وتسكن إرادتهم بعد حدوث إنجازاتهم المحدودة ..

أراد الإسلام أن يربط إرادات أمته وعزائمهم بربهم ، فكان اعتمادهم عليه هو مصدر قوتهم ، وتوكلهم على قدرته هو المثبت لعزائمهم ..

يقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه : " إن الله يحب معالي الأمور وأشرافها ، ويكره سفسافها " السلسلة الصحيحة , وهو ههنا يربط بين ما يريد قوله وبين معنى الآية القرآنية التي تشرح ذلك ، فالآية تقول : " فإذا عزمت فتوكل على الله " ، فهي تدعو دوما أن يكون العزم مرتبطا بالتوكل على الله سبحانه ، ومعتمدا عليه ، بل إنها تدعو كل إنسان أن يبذل كل ما في وسعه ثم بعدئذ يلقي أمره إلى ربه , ويتخلى عن حوله وقوته جميعا , ويلجأ إلى حول ربه وقوته .

وفي آية قرآنية أخرى يضرب القرآن مثالاً في الصدق النموذجي بالرجال المؤمنين الذين ضحوا بأغلى ما يملكون ابتغاء مرضات ربهم ، " من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ، ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا " . فهم قد ربطوا عزائمهم وأعمالهم بعهد قطعوه على أنفسهم مع ربهم وخالقهم .

إن عزائم الكبار لا ينبغي أن تنقض أو تنكسر ، ولا ينبغي أن تتخاذل أو تتراجع ، فالإسلام علمهم الوفاء بالوعد الذي عاهدوا أنفسهم عليه ، وإنفاذ القرار إذا تشاوروا فيه ، وحسم السير في السبيل مهما عاقتهم العوائق ، فلا تردد ولا نكوص ولا تراجع ..

وقد جاءت الآيات القرآنية متكاثرة حول التأكيد على عدم نقض العزائم وإنقاذ الهمم ، يقول تعالى : " الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق " ، والميثاق هو العقد الذي عقده الإنسان على نفسه موثقا أكيداً.

هناك درس آخر في العزائم والطموحات للمؤمنين ، هذا الدرس معناه أن يلزموا طريق رسالتهم ولا يعبأوا بقلة الأنصار ، ولا يغتروا بكثرة المخالفين ، فأصحاب العزائم قد رقيت أنفسهم بحيث صاروا لا يأبهون بقلة الأتباع ووحشة الطريق , والآيات القرآنية تدل على أن المرء وحده - وهو على الحق - يمكن أن يساوي أمه كاملة ، كما قال تعالى في حق إبراهيم عليه السلام : " إن إبراهيم كان أمة قانتاً لله حنيفاً " ، يعنى كان مؤمنا وحده ( مجموع الفتاوى ) ، وقد قال لزوجته ذات مرة : " يا سارة : ليس على وجه الأرض مؤمن غيري وغيرك " البخاري .

وقد سرى في الصحابة هذا الشعور ، فبينما عمر بن الخطاب يسمع رجلاً يقول : " اللهم اجعلني من الأقلين " قال له عمر ، " يا عبد الله ، وما الأقلون ؟ " ، قال سمعت الله تعالى يقول : " وما آمن معه إلا قليل " ، " وقليل من عبادي الشكور " ، فقال عمر : صدقت .

لقد علمنا الإسلام أن القلة المؤمنة هي القلة التي تصبر حتى النهاية ، وأن القائد ( لا ينبغي ) أن يغتر بالكثرة حتى لو كانوا معه في بداية الطريق ، وإنما عليه أن يختبرهم , فمن كانت عزيمته أقوى كان هو الأحق بالاستمرار والسير ، ومن كان ضعيف العزيمة مستجيباً للمغريات , غير صابر على الآلام ، فهو الأقل حظا في اللحاق بالركب ..

لقد سار أهل سوريا سيرا طويلا في طريق لايزال يبدو شاقا ومؤلما , لكنهم ساروا كثيرا , وانتصروا كثيرا و انتصروا على أنفسهم , وهواهم , وانتصرت مبادئهم وقيمهم , وانتصر إيمانهم , فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر , وما بدلوا تبديلا