عندما تذكر الحضارة الإسلاميّة يتبادر إلى ذهن أكثر الناس الجانب العلميّ والعمرانيّ ، وقيم الحقّ والعدل ، وفعل الخير ومكارم الأخلاق ..
وكلّ ذلك حقّ لا غبار عليه ، ولكنّ جانباً على درجة كبيرة من الأهمّيّة ، يغفل عنه أكثر الناس ، ولا يتحدّث عنه إلاّ قلّة من الخواصّ ، وهو يحمل بُعداً إنسانيّاً سَامياً ، يُعدُّ روح الحضارة الإسلاميّة ، وشعارها ودثارها .. إنّه الحُبُّ .. بمفهوم الإسلام ، لا بمفهوم الناس ، الذين جعلوا منه علاقة مسفّة مبتذلة .!
الحبّ بمفهوم الإسلام يتنزّل من سماء الربوبيّة إلى أرض العبوديّة ، ليسمو بالإنسان عن علاقات الحسّ ورغبات الجسد .. يتنزّل من سماء قول الله تعالى : « .. يحبّهم ويحبّونه .. (54) » المائدة ، وقوله سبحانه : « .. والذين آمنوا أشدّ حبّاً لله .. (165) » البقرة ، وقول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الحديث القدسيّ : « .. وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ .. » رواه البخاريّ في صحيحه 8/131 ( 6502 ) ، وقوله صلّى الله عليه وسلّم : « إِنَّ اللهَ إِذَا أَحَبَّ عَبْداً دَعَا جِبْرِيلَ ، فَقَالَ : إِنِّى أُحِبُّ فُلاَناً فَأَحِبَّهُ .. » . صحيح مسلم (8/40)
ويتغلغل الحبّ في الإيمان حتّى يكون جزءاً لا يتجزّأ من حقيقته ، ففي الحديث :
« فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ » . صحيح البخاري (1/10)
كما أنّ حلاوة الإيمان لا تتحقّق للعبد إلاّ بالحبّ في أرقى صوره وعلاقاته ، وحقائقه ومعانيه ، ففي الحديث : « ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ : أَنْ يَكُونَ الله وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا ، وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلاّ لله ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ » . صحيح البخاري (1/10)
وثقافة الحُبّ في الإسلام أضفت على الحياة الإنسانيّة بعداً يتجاوز القيود والعادات المصطنعة بين الإنسان والإنسان ، وهذا من صلب الدين وتشريعاته السمحة ، التي تهدف إلى هداية الإنسان إلى الحقّ ، وإخراجه من الظلمات إلى النور .. ألم يأذن الإسلام بنكاح الكتابيّات .؟ وهل يتصوّر النكاح بغير الحبّ والرغبة .؟
بل إنّ الأمر أبلغ من ذلك وأوسع ، إذ يرشد الله عباده إلى أن يعقدوا بينهم وبين أهل الكتاب غير المحاربين المعتدين ، أن يعقدوا معهم علائق البر ، لتكون خير جسر بينهم وبين المؤمنين ، لزرع الثقة ، وفتح أبواب الحوار والتعارف ، وهو من أهمّ متطلّبات الدعوة إلى الله تعالى .. فيقول الله تعالى : « عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) » الممتحنة .
ولا يتعارض شيء من ذلك مع مبدأ الولاء والبراء ، كما يتوهّم بعض المتحمّسين بغير فقه شرعيّ ، أو كما يشيع الأعداء المغرضون ..
يقول الشيخ القاسميّ عن هذه الآية في تفسيره (محاسن التأويل) :
« هذا ترخيص من الله تعالى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ، ولم يقاتلوهم . فهو في المعنى تخصيص لقوله : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي } إلخ أي : لاينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين من أهل مكّة ، ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم ، وتقسطوا إليهم ، أي : تفضوا إليهم بالبرّ ، وهو الإحسان ، والقسط وهو العدل ، فهذا القدر من الموالاة غير منهي عنه ، بل مأمور به في حقّهم . والخطاب وإن يكن في مشركي مكّة ، إلاّ أنّ العبرة بعموم لفظه ، كما قال الإمام ابن جرير : والصواب قول من قال : عنى بقوله تعالى : { لَا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ } من جميع أصناف الملل والأديان ، أن تبرّوهم وتصلوهم وتقسطوا إليهم ، فإنّ الله عزّ وجلّ عمّ بقوله : { الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ ، وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ } جميع من كان ذلك صفته ، فلم يخصّص به بعضاً دون بعض » .
ويقول سيّد قطب رحمه الله : « إنّ الله لا ينهى المسلمين عن البرّ والإقساط لمن يقف منهم موقف المسالمة والمحاسنة والحياد من أيّة ملّة كانوا ، وهؤلاء قد لا يكونون معاهدين ! » . فى ظلال القرآن (3/ 1590)
« إنّ الإسلام دين سلام ، وعقيدة حبّ ، ونظام يستهدف أن يظلّل العالم كلّه بظلّه ، وأن يقيم فيه منهجه ، وأن يجمع الناس تحت لواء الله إخوة متعارفين متحابّين » .
« وليس هنالك من عائق يحول دون اتّجاهه هذا إلاّ عدوان أعدائه عليه وعلى أهله ، فأمّا إذا سالموهم فليس الإسلام براغب في الخصومة ولا متطوّع بها كذلك ! وهو حتّى في حالة الخصومة يستبقي أسباب الودّ في النفوس بنظافة السلوك وعدالة المعاملة ، انتظاراً لليوم الذي يقتنع فيه خصومه بأنّ الخير في أن ينضووا تحت لوائه الرفيع ، ولا ييأس الإسلام من هذا اليوم الذي تستقيم فيه النفوس . فتتّجه هذا الاتّجاه المستقيم » . فى ظلال القرآن (6/3544)
ديننا دين الحبّ .. دين يزرع الحُبِّ في القلوب ، ويتغلغل به في الأحشاء ، ويظهر على بسمة الوجه ، وحروف الشفاه ، وفعل الخير ، وبذل المعروف ..
دين جهاده حُبّ ، وفتحه رحمة ، وحكمه بين الناس عدل وإحسان ..
وثقافتنا ثقافة الحُبِّ ، تربّى عليها أجيال الإسلام عبر القرون ، وملأت ما بين المشرق والمغرب ، ووحّدت العرب والعجم ، وألّفت بين الأمم والشعوب ، وجمعت القلوب على روح واحدة ، ومشاعر واحدة ..
وغيرنا دينه الحقد ، وثقافته الكراهية ، وعلاقاته الكبر والاستعباد ، وحربه الإفساد والتدمير ، والقتل والنهب .. والتاريخ حكم عدل ، وشاهد صدق .. وهو يتجاهل قيمنا ، ويطمس فضائلنا ، وينكر محاسننا ، ويرمينا بدائه الدويّ ، وخلائقه المرذولة ..
ومع امتداد بساط الحبّ ليشمل الحياة الإنسانيّة كلّها فإنّه يشمل كلّ موجوداتها ، من الحيوان والنبات والجماد ، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم عَنْ جبل أُحُدٍ : « هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ » . صحيح البخاري (4/42)
قَالَ الإمام البغويّ في شرح السنة (7/ 315) : « وَلا يُنْكَرُ وَصْفُ الجَمَادَاتِ بِحُبِّ الأَنْبِيَاءِ ، وَالأَوْلِيَاءِ ، وَأَهْلِ الطَّاعَةِ، كَمَا حَنَّتِ الأُسْطُوَانَةُ عَلَى مُفَارَقَتِهِ حَتَّى سَمِعَ الْقَوْمُ حَنِينَهَا إِلَى أَنْ أَسْكَتَهَا الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم ، وَكَمَا أخْبَرَ أَنَّ حَجَرًا كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ قَبْلَ الوَحْيِ ، فَلا يُنْكَرُ أَنْ يَكُونَ جَبَلُ أُحُدٍ ، وَجَمِيعُ أَجْزَاءِ المَدِينَةِ كَانَتْ تُحِبُّهُ ، وَتَحِنُّ إِلَى لِقَائِهِ حَالَةَ مُفَارَقَتِهِ إِيَّاهَا ، حَتَّى أَسْرَعَ إِلَيْهَا حِينَ وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَيْهَا ، كَمَا أَقْبَلَ عَلَى الأُسْطُوَانَةِ ، وَاحْتَضَنَهَا حِينَ سَمِعَ حَنِينَهَا عَلَى مُفَارَقَتِهِ » .
وقال الإمام النووي في شرحه على صحيح مسلم (5/ 30) : « الصَّحِيح المُخْتَار أَنَّ مَعْنَاهُ : أَنَّ أُحُدًا يُحِبّنَا حَقِيقَة ، جَعَلَ الله تَعَالَى فِيهِ تَمْيِيزًا يُحِبّ بِهِ ، كَمَا قَالَ سُبْحَانه وَتَعَالَى : { وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِط مِنْ خَشْيَة اللَّه } ، وَكَمَا حَنَّ الجِذْع اليَابِس ، وَكَمَا سَبَّحَ الحَصَى ، وَكَمَا فَرَّ الحَجَر بِثَوْبِ مُوسَى صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَكَمَا قَالَ نَبِيّنَا صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « إِنِّي لَأَعْرِف حَجَرًا بِمَكَّة كَانَ يُسَلِّم عَلَيّ » ، وَكَمَا دَعَا الشَّجَرَتَيْنِ المُفْتَرِقَتَيْنِ فَاجْتَمَعَا ، وَكَمَا رَجَفَ حِرَاء فَقَالَ : « اُسْكُنْ حِرَاء فَلَيْسَ عَلَيْك إِلَّا نَبِيّ أَوْ صِدِّيق ... » ، الْحَدِيث . وَكَمَا كَلَّمَهُ ذِرَاع الشَّاة ، وَكَمَا قَالَ سُبْحَانه وَتَعَالَى : { وَإِنْ مِنْ شَيْء إِلَّا يُسَبِّح بِحَمْدِهِ ، وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحهمْ } . وَالصَّحِيح فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَة : أَنَّ كُلّ شَيْء يُسَبِّح حَقِيقَة بِحَسَبِ حَاله ، وَلَكِنْ لَا نَفْقَههُ ، وَهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ شَوَاهِد لِمَا اِخْتَرْنَاهُ ، وَاخْتَارَهُ المُحَقِّقُونَ فِي مَعْنَى الْحَدِيث ، وَأَنَّ أُحُدًا يُحِبّنَا حَقِيقَة » .
وقال في كتاب : « التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد » (22/ 331) :
« ذهب جماعة من أهل العلم إلى حمل هذا القول على الحقيقة ، وقالوا : جائز أن يحبّهم الجبل كما يحبّونه ، وعلى هذا حملوا كلّ ما جاء في القرآن وفي الحديث من مثل هذا ، نحو قوله عزّ وجلّ : {فما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ} و : {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} و : {يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ} أي سبّحي معه و : {جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ} ومثله في القرآن كثير .
وأما الحديث ففيه ما لا يحصى من مثل هذا ، نحو ما روي أنّ البقاع لتتزيّن للمصلّي ، وأنّ البقاع لينادي بعضها بعضاً هل مرّ بك اليوم ذاكر لله » .
وعلّل الإمام الزرقانيّ ذلك تعليلاً جميلاً في شرحه على موطأ الإمام مالك (4/281) إذ قال بكلمة موجزة : « لأنّ جَزاءَ مَن يُحِبُّ أن يُحَبَّ » .
فالمسلم في سلم مع الكون كلّه ، وفي حبّ ووئام ، وأنس وانسجام ..
فانظر رعاك الله : أين تجد مثل هذه الثقافة في أيّ ملّة من ملل الأرض .؟! وأيّ حضارة إنسانيّة راقية ، أسعد بها البشريّة ، يوم استظلّت بظلّها ، ونعمت بخيراتها .؟!
فالحمد لله على نعمة الإسلام .. والحمد لله الذي هدانا لهذا ، وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله ..