رسالة إلى ولدي المراهق (1) ..!
11 محرم 1434
د. عبد المجيد البيانوني

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، وبعد ؛ أي بني .!

 

 

أكتب إليك هذه الرسالة ، وهي أوّل رسالة ، ولعلّها تكون آخر رسالة .. ولقد تردّدت كثيراً في الكتابة إليك ، ثمّ ترجّح ذلك لديّ ، آملاً أن تقع منك موقعاً حسناً ، وتكون أداءً لحقّ لك على أبيك ، ومعذرة إلى ربّك ، أنّني بلّغت ما أعتقد أنّه الحقّ والرشد ، ووقفتك على مسئوليّتك الشرعيّة ، دون لبس أو تمويه ..

 

 

لقد عشتَ هذه السنوات الماضية من عمرك المديد بإذن الله ، والعلاقة بيني وبينك تقوم على الشفافيّة ، ولطف الصلة ، وحسن الاستجابة للتوجيه باللحظ والإشارة ، ممّا أغناني في أكثر الأحيان عن التوجيه المباشر ، أو العَتب واللوم ، فضلاً عمّا هو أكبر من ذلك .. وتلك منقبة لك أوّلاً وآخراً .. تدلّ على صفاء نفسك ، ورقّة طبعك ، وسموّ همّتك ، وحسن استعدادك ..

 

 

لقد كانت الإشارة تغنيني وإيّاك عن العبارة ، وتواصل روحينا يختصر طريقاً طويلاً ، معبّداً أو غير معبّد .. وكنت أشعر من قرارة روحي أنّك تسمو يوماً بعد يوم ، بما لا يسمو إليه أقرانك في شهر أو أكثر من شهر .. وأستشفّ لك من ذلك مستقبلاً مشرقاً ، يرشّحك لعملٍ متميّز في حمل الأمانة ، ونصرة الحقّ ، تسبق به من مشى قبلك ، وفاق جهده جهدك .. ولست في ذلك واهماً أو حالماً ، ولكنّني أستشرف سنّة الله تعالى في عباده ، ولن تجدَ لسنّة الله تبديلاً ، ولن تجد لسنّة الله تحويلاً ..

 

 

  ـ أي بني .! إنّ العلاقة التي تربط بين الوالد وولده تسمو على كلّ علاقة مع الخلق ، يعجز الفكر عن تصوّرها ، واللسان عن التعبير عنها ، إذ هي تحكم العقل ولا يحكمها ، وتسمو بالوجدان وتوجّهه ، وترشده وتسعده ، ويكفي أنّ النبيّ  قرّب لنا هذه الصورة ، وترك لنا وراءها مدىً بعيداً ، من شفافيّة التصوّر ، ورقيّ العلاقة عندما قال : ( لا يَجْزِي وَلَدٌ وَالِداً إِلاّ أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكاً فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ ) ( ) .
وأكثر الأبناء لا يعي هذه الحقيقة إلاّ عندما يصبح والداً ، فيستطيع أن يقدّر عظم حقيقة الوالديّة وحقّها ، ورفعة مكانتها .. وبعض الأبناء ربّما لا يدرك ذلك إلاّ عندما يكون الأمر قد فات ، والتدارك له غير مُوات ، فيندم ولات ساعة مندم ، ويتحسّر إذ لا تنفع الحسرة .!

 

 

  ـ أي بنيّ .! أتعدّ نفسك من عوام الناس أم من خواصّهم .؟ أمّا أنا فلو عددتك من عوامّ الناس لما حدّثتك إلاّ عن أدنى حقّ للوالد على ولده ، الذي إن فرّط به خرج إلى العقوق ، الذي هو كبيرة من كبائر الإثم .. ولكنّ حديثي معك عن البرّ .. والبرّ أمر أسمى من الحقّ وأجلّ ، وأرفع وأمنع .. إنّه سمت الأنبياء والأصفياء ، وخلق ذوي الشفافيّة الألبّاء .. وسيأتيك يوم إن شاء الله تكون فيه والداً .. فتدرك حقيقة ما أحدّثك عنه وتتذوّقه .. وخير لك أن تدركه منذ اليوم ، فربّما فاتك التدارك في الغد ، أو حيل بينك وبينه ..

 

 

  ـ فما بالك اليوم ! قد تغيّرت عمّا كنت عليه .؟! لقد أصبحتَ لا ترى إلاّ نفسك .. ولا تفكّر إلاّ فيما تريد .. ولقد أصبحتُ أرى بيني وبينك حاجزاً كثيفاً .!؟ ولقد تقول : وكيف رأيت ذلك .؟! فأقول لك : رأيتُه بقلب الوالد وبصيرته .. ولو شئتَ لرأيتَه بقلبك ، وما أخطأه حدسك .. وإنّ حديث نفس الآباء يا بنيّ لا يخطئ قلوب الأبناء .. وإنّه يا بنيّ من معاني البرّ ، التي تستشفّها القلوب ، ولا تخضع لفلسفات العقول وحججها وبراهينها .. وإنّي لألمح في البرّ معاني ذوقيّة عميقة ، لا يدركها ، ولا يعيها كثير من الناس ، ولعلّها كانت السبب وراء وصف بعض أنبياء الله تعالى في القرآن الكريم بالبرّ ، وتخصيصهم بهذا الوصف ، وثناء الله عليهم بذلك ، فمن المعاني التي ألمحها :

 

 

  ـ أنّ البرّ دليل على شفافيّة الروح وتحليقهَا ، وصفاء النفس ورقيّها ، واكتمال المروءة ونضجها ..

 

 

  ـ أنّ البرّ سرّ جاذبيّة القلوب ، وأن ينال الإنسان القبول ، فما رأيت برّاً بوالديه إلاّ موفّقاً في عمله ، محبوباً من الناس ، يقبلون عليه بكلّ قلوبهم ، ويجتهدون في خدمته وتحقيق رغباته ..

 

 

  ـ عندما يتفكّر الولد الموفّق للبرّ ببرّ والديه إيّاه قبل برّه ، فلن يسعه إلاّ أن يكون برّاً بهما حفيّاً ، وهذا ما أسمّيه : " تناغم البرّ " ، وأحمدُ الله تعالى يا بنيّ على نعمه وآلائه ، أنّي من أبرّ الناس بأولادهم ، لم آلهم حبّاً وإشفاقاً ، ونصحاً ورشداً ، يشهد بذلك كلّ من عرفني ، وعرف أسرتي وعلاقتي بها ، وهذا من أعظم فضل الله عليّ وعليهم ونعمه ..

 

 

  ـ وإنّ حبّي يا بنيّ وإشفاقي ، ونصحي لك الصادق ، يدعوني إلى أن أقدّم إليك معالم ضروريّة ، على طريق بناء الشخصيّة السويّة ، والبعد عن سلبيّات المراهقة ، التي قد تنحرف بصاحبها عن سواء السبيل :

 

 

  ـ إنّ أكثر الناس يعتدّون بعقولهم إلى درجة العجب بالنفس والغرور ، والاستهانة بعقول الآخرين وأفكارهم ، والزهد في استشارتهم ، وبخاصّة في علاقتهم بوالديهم ، فاحذر أن تكون منهم .

 

 

  ـ اعلم أنّك في مرحلة تستطيع فيها التغيير والبناء بكلّ سهولة ، وستصل إلى مرحلة تحتاج فيها أضعافاً مضاعفة من الجهد لتستطيع تغيير ما يؤسّس لك من عادات ، في المأكل والمشرب ، والعلاقات مع الآخرين ، وأسلوب التفكير ، ومعالجة الأمور .

 

 

  ـ إنّ شخصيّة الإنسان تكاد تكون مجموعة من العاداتِ ، منها الحسن ، ومنها غير ذلك ، فانظر بم تبنيها اليوم ، قبل أن يأتيك يومٌ تستحكم فيكَ فتندم .؟

 

 

  ـ أترضى أن تتّسم شخصيّتك بالتسرّع والبعد عن الحلم والرويّة .؟ فإذا لم ترتضِ ذلك فدقّق في مواقفك وردود فعلك ، ولا يكن من خلقك التبرير والتماس الأعذار لمواقفك وأخطائك ..

 

 

   ـ كن واضحاً في علاقاتك ، صريحاً في مواقفك ، جريئاً في طلب حقّك ، فمن لم يتعوّد على ذلك تقُده صفات ضعفه إلى الكذب وَالمُراوغة ، ولا يخفى أمرُه على أكثر الناس ، ممّا يضع الحجب الكثبفة بينه وبينهم ، ويسقط مكانته عندهم .

 

 

  ـ لا يعكّر صفو شخصيّتك أن تستأذن والديك ، فإنّك لن تعدم منهما خبرة في الحياة وحكمة ، ونصحاً ودعاءً ، ولا يعكّر صفو شخصيّتك أن تشاور .. وأن تسمع رأي والدك ، ومن هو أكبر منك ، وتتفهّم وجهة نظره .. ولا يعكّر صفو شخصيّتك أن تستنير بآراء الآخرين ، وخبرتهم في الحياة ..

 

إنّ العقلاء والحكماء يا بنيّ يجمعون على أنّ المشورة دليل على عقل الإنسان ورزانته ، وبصيرته وبعد نظره .. وأسأل الله تعالى أن لا أعدم فيك نجيباً لبيباً ، وقرّة عين أريباً .. والله يتولّى توفيقك وإسعادك ..  

--------------------------------------------------
 

(1) ـ مراهقة البنوّة لا تنتهي إلاّ بالزواج والأبوّة ، وأحبّ أن أنوّه أنّ كثيراً من الناس ينظرون إلى كلمة " المراهقة " نظرة سلبيّة ، ويأنف أكثر الشباب من أن يوصفَ بها ، وأقصد بها في كلمتي إليك المعنى الموضوعيّ لهذه الكلمة ، لا المعنى الذي يأباه أكثر الشباب .. وأقصد بها تحديداً أنّها المرحلة التي تقارب النضج العقليّ والنفسيّ ، لا مقاربة البلوغ الجنسيّ ، وما يعتري الغلام فيها من تقلّبات