لا تجرحوهم في العطاء ففي جروح المنع غناء !
22 ذو القعدة 1433
يحيى البوليني

عندما يجد اليتيم من يقهره وعندما يجد الفقير من يمنعه حقه الذي كفله الله له , وعندما يجد الضعيف من يتجبر عليه بما ملكه الله له , وعندما تجد المرأة من يستأسد عليها وهي أسيرة عنده , ربما تكون كل هذه الجروح – رغم ألمها الشديد – متحملة , وقد يصبر المجروحون على آلامها , وربما يضطرون إلى التعايش مع قسوتها لأنها أمر معتاد يتكرر نتيجة اختلاف تصرفات البشر وأخلاقهم ودرجة تدينهم .

 

لكن الألم الأشد والأكثر صعوبة عندما يأتيهم الألم من أناس يظنون أنهم يحسنون إليهم ويقضون لهم حوائجهم ويبيتون لياليهم وهم يشعرون أنهم قد أدوا ما عليهم تجاه إخوانهم الذين يقفون بجوارهم في محنتهم .

 

فكم يكره الضرير شعور الشفقة عليه , ويتألم من فعل كل من يتعمد أن يُذَكره في كل كلمة أو فعل ذلك المعنى البغيض له أنه عاجز ومبتلى , وأنه يشعر بالشفقة نحوه , وكم يكرهون – وذلك من أفواههم – ذلك الاسم الذي تسمى به تلك المعاهد التي يُعزلون فيها عن المجتمع ويدرسون فيها علومهم وتسمى دوما بهذا الاسم أو أشباهه " معاهد النور " , وكأن المبصرين يجلدونهم صباح مساء بتلك الكلمة التي لا يدري المكفوفون لها معنى ينطبع في أعماقهم إلا معنى الحرمان من نعمة البصر .

 

وكم يكره الفقير ذلك الشعور الذي يصدر ممن يعطيه من ماله ممزوجا بنظرة الشفقة المؤلمة وهو يقدم له من المال ما يضطره لمعاودة السؤال مرة بعد مرة , وكأنه يشعر أنه لن يخرج من دائرة الحرمان أبدا , ولن يكون عضوا فاعلا في الحياة بسبب فقره أو عجزه .

 

وكم يكره اليتيم حينما يشعر أن ما يناله من اهتمام ورعاية من المسلمين ليس حقا من حقوقه عليهم بقدر ما هو ممزوج بنظرة الشفقة المقيتة التي يراها في أعين كل من رآه أو أعطاه  أو مسح على رأسه .

إن مواساة الفقراء والضعفاء أمر مستحب في الدين , ويحث عليه الخلق الكريم , لكنه إذا قرن دوما بإشعارهم بالعطف والشفقة وأنهم لا يصلحون لشيء سوى لنيل الصدقات وتلقي الإعانات تتحطم نفسياتهم وتجرح كرامتهم , فلا يشعرون بأن لهم نفعا في المجتمع ولن يكون لهم دور فيه , ولن يستفيد المجتمع من مواهبهم وإمكانياتهم ولن يدمجهم فيه , بل سيظلون دوما في عزل دائم ينتظرون فقط العطاء وسيكونون دوما اليد السفلى .

 

وهناك عادة لابد من تعديلها في سلوكيات كثير من المنفقين لأموالهم أو الباذلين أوقاتهم وجهودهم على إخوانهم , هي أنهم يعطون إخوانهم المحتاجين ما يسد جوعتهم أو يكسي عورتهم  ليعيشوا يوما أو يومين بلا مسألة  , يعطونهم ليأكلوا وليشربوا وليلبسوا , يعطونهم عطاء استهلاكيا فقط ليبقيهم على تلك الحاجة أبد الدهر .

 

لكن العطاء الايجابي البناء الفعال الذي يركز على بناء إنسان قادر على أن يخرج من ربقة السؤال ومذلته , لاشك أنه أفضل وأعظم أجرا , ويتمثل في تعليمهم علما أو مهنة يتكسبون منها , أو التكفل بهم دراسيا حتى يتفرغوا للنجاح في العلم إن كانوا من أهله , أو الشفاعة الحسنة لهم في نيل وظيفة تتناسب مع ما يحملونه من علم أو خبرة , كل هذه المظاهر وغيرها من أفكار بنائية تدخلهم في خانة المعطين لا الآخذين وتحقق لهم كرامتهم التي يهدرها ذل الحاجة .

 

إن الرحمة والشفقة والعطف في حد ذاتهم ليسوا مذمومين , بل على العكس تماما . فهم من شيم المؤمنين الأتقياء , فينبغي على المؤمن أن يكون رحيما شفيقا عطوفا على إخوانه من ذوي الحاجات والضعف , لكنها محمودة عندما يقتصر وجودها داخل قلب المعطي , وهي مذمومة جدا إذا ظهرت في تصرفات المعطي وشعر بها الضعيف المحتاج .

 

إن المجتمع الإسلامي ليحتاج في بنائه ونهضته واستمرار تقدمه لجهود كل أبنائه حتى من ذوي العاهات منهم , وإن أول مرحلة في الاستفادة من هؤلاء الضعفاء – اسما لا حقيقة – هو شعور الباقين أن هؤلاء مثلهم تماما , وأنهم يملكون من القدرات على فعل الكثير مما يتوقعونه ومما لا يتوقعونه .

 

فكم من يتيم نابه قُضي على مستقبله العلمي أو المهني بهذه الشفقة الظالمة وهذا الانتقاص المؤلم , وكم من رجل كُف بصره لكنه كان مؤثرا في قيادة أمة الإسلام ورفع رايتها , وكم من قعيد مشلول الأطراف تمكن من إحياء الأمة بكلماته القليلة المنهكة – صحيا – وهي التي ربت جيلا مسلما مؤمنا بطريق الجهاد ضد أعداء الدين , فكان العدو يخشى ردود أفعال الشيخ المُقعد ويعتبرها أخطر عليه من ردود أفعال حكومات كثيرة لا يلقي لها بالا .

 

وبالنظر لتاريخ الإسلام الناصع , نتسائل : هل بلغ أحد في عطائه مثل عطاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ , الذي كان يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة , وكان يقول " .. لو كان لي عَدَدُ هذه العِضاهِ نَعَمًا لقَسَمْتُه بينَكم، ثم لا تَجِدوني بَخيلًا، ولا كَذوبًا، ولا جَبانًا " , لكنه كان يعطي عطاء البناء لا الهدم , عطاء من يقيم النفوس لا عطاء من يجعلها تستمرئ الأخذ فلا تقوى على العمل والسعي ولا ترغبه .

 

فإذا نظرنا إلى ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في تعامله مع هؤلاء الضعفاء لعلمنا لماذا تأخرت الأمة اليوم وتقدم غيرها عليها , ولاكتشفنا أننا نهمل كنزا عظيما ونهدره , نقتل وندفن مواهب منحها الله لمجتمعاتنا ونضيع إمكانيات وكفاءات تحت ستار الشفقة القاسية المؤلمة .

 

فهذا عمرو بن الجموح رضي الله عنه , ذلكم الأعرج الذي وضع الله عنه وعن أمثاله من أصحاب الأعذار الجهاد , فيقول سبحانه " لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ " , وقال ابن كثير في تفسير الآية : " ثم بين تعالى الأعذار التي لا حرج على من قعد معها عن القتال ، فذكر منها ما هو لازم للشخص لا ينفك عنه ، وهو الضعف في التركيب الذي لا يستطيع معه الجلاد في الجهاد ، ومنه العمى والعرج ونحوهما " .

 

ورغم هذا العرج , تاقت نفس عمرو بن الجموح للجهاد والشهادة في سبيل الله , فلم يمنعه رسول الله صلى الله عليه وسلم منها " فأتى عمرو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : إن بني هؤلاء يمنعونني أن أجاهد معك ، ووالله إني لأرجو أن أستشهد فأطأ بعرجتي هذه في الجنة , فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : أما أنت فقد وضع الله عنك الجهاد . وقال لبنيه : وما عليكم أن تدعوه لعل الله عز وجل أن يرزقه الشهادة ؟ فخرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقتل يوم أحد شهيدا " [1]. 

 

وهذا عبد الله بن أم مكتوم الذي أصيب في عينيه , وهو الذي أنزلت في شأنه الآيات في صدر سورة " عبس وتولى " , لم يحرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم من شرف الاشتراك كعضو فاعل في المجتمع الإسلامي , بل ولاه أعظم منصب فيها , فاستخلفه على المدينة ليقوم بمهام حاكمها المطاع لحين عودته صلى الله عليه وسلم من الجهاد ثلاثة عشرة مرة [2] , بالإضافة إلى كونه مؤذنا للصلاة في مسجد المدينة , فجاء في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يَمنَعنَّكَم أذان بِلال من سُحُورِكم فإنَّه يُنادِي بِلَيْل فكلُواْ واشربُواْ حتى أذان ابن أمِّ مَكتُوم فإنه لا يؤذن حتى يطلع الفجر " .

 

وبعد النبي صلى الله عليه وسلم خرج ابن مكتوم للجهاد في سبيل الله , ويتحدث بعزة عن ما يعتبره الناس نقصا فيه - وهو كف بصره -  فيقدمه لقائده على أنه ميزة له , فيسأله أن يوليه حمل الراية لأنه لا يرى كثرة العدو ولا عُدته , فلن يضطرب أو يفر , فيُولى رفع الراية وينال شرف الجهاد في سبيل الله حتى قيل أنه قتل شهيدا في القادسية رضي الله عنه .

 

وهكذا كان المنهج الإسلامي والتطبيق النبوي مثالا في الاهتمام بكل العناصر الموجودة وتوظيفها مجتمعيا حتى لو كانت من أصحاب الأعذار , فأدى ابن أم مكتوم وغيره ما يحسنونه من عمل وفق ما يملكون , ولم يكونوا عالة ولا عبئا ولا معطلين في المجتمع ينتظرون فقط الإحسان والشفقة والعطف المكبل لهم .

 

وهذا أسامة بن زيد بن حارثة , الحِب بن الحِب , الذي استشهد أبوه في غزوة مؤتة في جمادى الأولى من العام الثامن للهجرة , فعلى الرغم من يتم أسامة وحداثة سنه يبعثه الرسول في بعث للجهاد في نفس المكان الذي قتل فيه أبوه , بل ويوليه إمارة هذا الجيش , وذلك قبل موته صلى الله عليه وسلم بأيام في أوائل العام الحادي عشر من الهجرة , ويدافع صلى الله عليه وسلم عن إمارة أسامة , فيقول كما في البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما " بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثا وأمر عليهم أسامة بن زيد  فطُعن في إمارته فقال : " إن تطعنوا في إمارته فقد كنتم تطعنون في إمارة أبيه من قبله ، وأيم الله إن كان لخليقا للإمرة ، وإن كان لمن أحب الناس إلي ، وإن هذا لمن أحب الناس إلي بعده " , فلم يتعامل معه النبي صلى الله وسلم التعامل الذي يجعله منزويا باكيا محزونا على فراق أبيه ويشعر أنه فقد كل مقوم من مقومات الحياة , بل ضمه وبسرعة للمجتمع الإسلامي لكي يكون عضوا فعالا ومؤثرا فيه .

 

وهكذا تربت أجيال من اليتامى بدون هذا الحرج أو الشعور المرهق الذي نراه أو الشفقة الظالمة التي توهن عزائمهم ليكونوا مشاعل هداية وفخرا لأمة الإسلام منذ بداية الدعوة إلى وقت قريب , فقد كان ابن الزبير يتيما ربته أمه صفية بنت عبد المطلب , فصار أحد المبشرين بالجنة وحواري الرسول صلى الله عليه وسلم , ونشأ أبو هريرة يتيما فقيرا ولا يجد في المدينة ما يسد جوعته ولكنه صار راوية الإسلام , وكان البخاري يتيما فملأ الدنيا من علم السنة الشريفة , وتربى الشافعي يتيما فقيرا بعد أن مات أبوه وهو في عمر السنتين فصار عَلَم الفقه ومعلم العلماء , وكذلك غيرهم الكثير مثل الإمام ابن الجوزي والإمام الأوزاعي والسيوطي وابن حجر وسفيان الثوري والقاسم بن محمد وغيرهم الكثير , بل وفي عصرنا هذا برز منهم من علمائنا الأجلاء أمثال عبد الرحمن السعدي ومحمد الأمين الشنقيطي وعبد العزيز بن باز الذي جمع الأمرين معا – اليتم وكف البصر - وصار عَلَما ورمزا من رموز العلم ، رحمهم الله جميعا , فلو استكان هؤلاء وانتظروا العطايا التي تمنح لهم بتلك النظرة المحبطة التي تجعلهم دوما منتظرين فضل ذوي الفضل لضاعت مواهبهم , ولضاع على الأمة هذا الخير الكثير .

 

وختاما إذا كنت من أهل العطاء فلا تجعل عطاءك آسرا لمن تعطيه مقيدا له لانتظار إحسانك , بل ادفعه لكي ينمي ويستثمر ما أعطاه الله له , لكي يشاركك يوما ما فيصبح من أهل العطاء مثلك فيعلو شأنكما ويتقدم مجتمعكما , واترك عنك إشعاره دوما بتلك الشفقة المحبطة أو تثبيت فكرة لديه بأنه لا حياة له بدون عطائك وعطاء أمثالك من أهل الفضل واليسار  , فهي القاصمة التي تضيع القدرات وتدفن المواهب , وحسبهم من الجروح المؤلمة المهلكة جروح من منعهم فلا تزيد جراحهم عند عطائك .

 

 

--------------------------------------------------------------------------------

[1] حسنه الألباني في كتاب فقه السيرة للغزالي تحقيق الألباني
[2] ذكره شمس الحق العظيم أبادي في كتاب عون المعبود شرح سنن أبي داود ينسبه للحافظ ابن عبد البر