ما أصعب الفراق بين الزوجين إذا كان كل منها يحب الآخر ويحترمه ويقدره , فما أصعب أن يأتي قضاء الله بالموت على أحدهما ويبقى الآخر متألما لفراق زوجه , يحن إليه ويشتاق لسماع صوته متذكرا سابق أيامهما وجميل عشرتهما معا التي أمضياها في طاعة الله سبحانه .
فما أن تهب نسائم ريح عابرة إلا ويتذكر الحبيب حبيبه الذي قضى فتتهيج ذكرياته وتتحرك شجونه ويستعيد مواقفها معه , فتجود بالدموع عينه ويخشع قلبه ويزداد حنينه لقضاء ساعة – ولو لساعة واحدة – من التي كانت فيها معه .
تستأذن عليه هالة بنت خويلد , الصوت يشبه الصوت , وتهب روائح خديجة في وقع أقدام أختها , ويهب النبي واقفا سعيدا وكان خديجة هي التي ستدخل عليه , ثم يقول اللهم هالة فيدعو الله أن تكون القادمة هي من تحمل عبق خديجة , وتدخل هالة ويكرمها ويتذكر فيها الحبيبة الغائبة .
وبعد غزوة بدر عاش المسلمون في فرح وسرور لنصر الله لهم , وعاش النبي صلى الله عليه وسلم نفس الفرح بفضل الله عليهم ولكن مع كدر قد أصابه على المستوى الشخصي الأسري .
فبعد أن أتم الله عليهم النصر في بدر بعث النبي بشيرين إلى المدينة ليبشروا المسلمين بالفتح والنصر , فبعث عبد الله بن رواحة إلى أعالي المدينة , وبعث زيدا بن حارثة إلى السافلة فيقول أسامة بن زيد : فأتانا الخبر حين سوينا التراب على رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم
ففي نفس وقت فرح المسلمين ببدر كان وقت ألم شخصي كبير للرسول صلى الله عليه وسلم بوفاة أولى بناته التي تركها على فراش الموت وذهب للقتال في بدر , فما أصعب موت الابن أو البنت في حياة والدهم , وحضور ذكر الموت استدعاء لذكرى الأحبة الذين ماتوا فلابد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد تذكر أمها التي ماتت قبل بضع سنوات فقط .
لم يستطع أحد أن يملأ فراغها في حياته حتى بعد أن تزوج غيرها لاستمرار أدائه لرسالته , ولم يكن ليقبل أن تُمس ذكراها في غيابها , فتروي أمنا عائشة التي لم تكن في هذا الوقت إلا جارية صغيرة حديثة السن , فتروي تلك الحادثة التي لم يسمعها غيرها من النبي – ولو شاءت لكتمتها , لكنها نقلتها لأمانتها في نقل حديث النبي فقالت – رضي الله عنها : " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يَكَادُ يَخْرُجُ مِنَ الْبَيْتِ حَتَّى يَذْكُرَ خَدِيجَةَ فَيُحْسِنُ الثَّنَاءَ عَلَيْهَا ، فَذَكَرَهَا يَوْمًا مِنَ الأَيَّامِ فَأَدْرَكَتْنِي الْغَيْرَةُ ، فَقُلْتُ : هَلْ كَانَتْ إِلا عَجُوزًا فَقَدْ أَبْدَلَكَ اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا ، فَغَضِبَ حَتَّى اهْتَزَّ مُقَدَّمُ شَعْرِهِ مِنَ الْغَضَبِ ، ثُمَّ قَالَ : لا وَاللَّهِ ، مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ خَيْرًا مِنْهَا ، آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ النَّاسُ ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ ، وَوَاسَتْنِي فِي مَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ ، وَرَزَقَنِي اللَّهُ مِنْهَا أَوْلادًا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلادَ النِّسَاءِ " . قَالَتْ عَائِشَةُ : فَقُلْتُ فِي نَفْسِي لا أَذْكُرُهَا بِسَيِّئَةٍ أَبَدًا " .
وفي هذا الجو المفعم بالألم على نفس رسول الله صلى الله عليه وسلم تبدأ قريش في إرسال الأموال لفداء أسراها الذي أسروا في غزوة بدر , ويتوقف النبي صلى الله عليه وسلم أمام فداء لأحد الأسرى , إنه أبو العاص بن الربيع – رضي الله عنه فقد أسلم بعد ذلك ومات مسلما وهو من خيرة الصحابة – إنه زوج ابنته الكبرى زينب – رضي الله عنها - التي كانت معه في مكة , فلم تكن آية التفريق قد نزلت بعد .
وأبو العاص رجل وفيٌ كريم يستحق التكريم , فقد رفض تطليق زينب حينما أمرت قريش رجالها أن يطلقوا بنات النبي صلى الله عليه وسلم نكاية فيه بعد البعثة , فطلق ولدا أبي لهب عتبة وعتيبة زوجتيهما رقية وأم كلثوم بنتي النبي , بينما تمسك أبو العاص بزوجته وابنة خالته رغبة في عشرتها وإكراما لها ولأبيها ولأمها حتى لو خالفهما في معتقدهما .
فآن لزينب أن ترد الدين , فزينب كريمة بنت كرام , وإذا أكرمت الكريم ملكته , فاختارت زينب أن ترسل في فداء زوجها أغلى ما تمتلك , وهو الشئ الذي لم تكن لتفرط فيه أبدا إلا فداء ووفاء لمن تحب , فما أشبه الفرع النبيل بالأصل الكريم , فما أشبهها بأمها – رضي الله عنهما – , فأرسلت زينب تلك القلادة التي أهدتها إياها أمها من قلائدها يوم زفافها .
فما إن رآها النبي صلى الله عليه وسلم وعرفها تأثر بها وكتم ما لا يفهمه كثير من الناس , فثارت بداخله الشجون والذكريات , إنها قلادة خديجة التي كانت ترتديها , وما أدراكم ما حاجيات خديجة التي تحمل عبيرها , فعَنْ عَائِشَةَ ، زَوْجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ : " لَمَّا بَعَثَ أَهْلُ مَكَّةَ فِي فِدَاءِ أُسَرَائِهِمْ ، بَعَثَتْ زَيْنَبُ بِنْتُ رَسُولِ اللَّهِ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فِي فِدَاءِ أَبِي الْعَاصِ بْنِ الرَّبِيعِ بِمَالٍ ، وَبَعَثَتْ فِيهِ بِقِلادَةٍ لَهَا كَانَتْ خَدِيجَةُ أَدْخَلَتْهَا بِهَا عَلَى أَبِي الْعَاصِ ، حِينَ بَنَى عَلَيْهَا . قَالَتْ : فَلَمَّا رَآهَا رَسُولُ اللَّهِ ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، رَقَّ لَهَا رِقَّةً شَدِيدَةً ، وَقَالَ : إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيرَهَا وَتَرُدُّوا عَلَيْهَا الَّذِي لَهَا فَافْعَلُوا . فَقَالُوا : نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَأَطْلَقُوهُ ، وَرَدُّوا عَلَيْهَا الَّذِي لَهَا " .
وقفات
- وما كانت زوجة مثل زينب بنت رسول الله وخديجة أن تتوانى عن فداء زوجها بأعز ما تملك وهي التي تربت في بيت شاهدت فيه أمها – رضي الله عنها – تفتدي رسول الله ( أباها ) بأعز ما تمتلك , ولم تتأخر في إنفاق كل ما ورثته من مال وما ربحته من تجارتها في مواساة زوجها , فلم تدخر قليلا ولا كثيرا , وهكذا مدحها فقال صلى الله عليه وسلم في الحديث السابق " وَوَاسَتْنِي فِي مَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ " , فكيف لها أن تتخلق بخلق لا يوازي خلق أمها , فكانت نعم البنت لخير أب وأم في البشر , فأبوها خير البشر وأمها سيدة نساء العالمين .
- وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يخيرهم في ذلك , فلم يشأ أن يستخدم في هذا الموقف سلطته الدنيوية كملك أو رئيس للمؤمنين في المدينة , ولم يشأ أن يستخدم مكانته الدينية كرسول رب العالمين مع صحابته , فلو شاء بكلا السلطتين أن يأمر فيطاع , ولكن لكون الأمر يتعلق بصلة قرابة شخصية آثر رسول الله أن يخير فها المسلمين ولا يجبرهم على قرار فقال " إِنْ رَأَيْتُمْ أَنْ تُطْلِقُوا لَهَا أَسِيرَهَا وَتَرُدُّوا عَلَيْهَا الَّذِي لَهَا فَافْعَلُوا " .
- وما كان لصحابة النبي الكريم رضي الله عنهم أن يروا رغبة للنبي صلى الله عليه سلم في شيئ ولا يفعلوه بلا لا يتسابقوا إلى فعله , وحتى لو سره في نفسه ولم يصرح به ولمحه احدهم كانوا يبتدرون أمره ويسعون في تنفيذه , فكانوا يرون سعادتهم وفرحهم في رؤية فرحه صلى الله عليه وسلم , وكان فرحهم له أعظم من فرحهم لأنفسهم , فعندما أسلم أبو قحافة يقول أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم : والذي بعثك بالحق لإسلام أبي طالب كان أقر لعيني من إسلامه - يعني أباه أبا قحافة - وذلك أن إسلام أبي طالب كان أقر لعينك ومثلها يقولها عمر للعباس أن تسلم أحب إلي من أن يسلم الخطاب ، لأن ذلك أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم , فكيف لهم بعد أن صرح رغبته تلك أن لا يفعلوا ؟ , ففعلوا عن طيب خاطر حبا لله وإرضاء لرسوله صلى الله عليه وسلم .
- ورسول الله صلى الله عليه وسلم يعرف قلائد خديجة , فرغم كثير انشغاله في سنينه الأخيرة من خديجة بأمور الدعوة ومشاق الرسالة , إلا أنه كان منتبها واعيا لحاجيات زوجته الخاصة , فالرجل بصفة عامة قليل الاهتمام بالتفاصيل وقد لا ينتبه إلى تفاصيل كثيرة تنتبه لها النساء , فكيف برجل يحمل هم رسالة خاتمة للعالمين , وكثير من الأزواج لا يكاد يعرف شيئا من حاجيات زوجته فلا يعرف لها ولا يذكر لباسا ولا هنداما ولا رائحة , ولكن خير زوج عرفته البشرية يذكر قلائد زوجته ويعرفها ويستطيع تمييزها بعد كل هذه السنين , فهلا تعلمَ الأزواج من خير زوج صلى الله عليه وسلم ؟! .
- ولم يخفف هذا الجو المليئ بالشجون والأحزان إلا بناء علي رضي الله عنه بفاطمة الزهراء بعد فترة وجيزة من بدر , وهو الزفاف الذي أدخل السرور على النبي صلى الله عليه وسلم , وكان من أكثر ما أدخل السرور على قلبه – صلى الله عليه وسلم - قيام بعض النسوة بمهام الأم في زواج فاطمة , فكل بنت – وخاصة في زواجها - تحتاج لامرأة كبيرة عنها ترشدها وتوجهها وتقول لها ما لا يصح سماعه سوى من امرأة, وهذا هو دور الأم الأهم في ذلك الوقت , فقامت بعض نساء المؤمنين بسد هذه الثغرة لكي لا يتعرض الرسول صلى الله عليه وسلم للألم من فقد خديجة مجددا , فيروي الحاكم في مستدركه رَواهُ عبدُ الرَّزَّاقِ في (الْمُصَنَّفِ)، والحاكِمُ في (الْمُسْتَدْرَكِ)، مِن حديثِ أسماءَ بنتِ عُمَيْسٍ أنها قالتْ: " حَضَرْتُ زَواجَ فاطمةَ مِن عَلِيٍّ - رضِيَ اللهُ عنهما- فبَصُرَ بي النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقالَ لي: مَنْ هَذِهِ؟ , قالتْ: فقُلتُ: أسماءُ بنتُ عُمَيْسٍ، قالَ: جِئْتِ فِي زَوَاجِ ابْنَةِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؟ قالتْ: قلتُ: نَعَمْ، قالتْ: فَدَعَا لِي " , وفي رواية أخرى تدل على مدى سروره صلى الله عليه وسلم بقيام النسوة بما يسره , فتقول أسماء : " قالت ونضح النبي عليها من الماء ودعا لها، قالت ثم رجع رسول الله فرأى سوادا بين يده فقال: من هذا ؟ , فقالت أنا , قال أسماء ؟ , قالت نعم , قال أسماء بنت عميس ؟, قلت نعم , قال جئت في زفاف بنت رسول الله تكرمة له ؟ , قلت نعم , قالت فدعا لي .
تنبيه
في ورود ذكر اسم أسماء بنت عميس في هذا الحديث غلط ووهم , لأن أسماء بنت عميس كانت في ذلك الوقت زوجه لجعفر بن أبي طالب وكانا معا في الحبشة ولم يعودا إلا بعد خيبر في السنة السابعة وكان زواج فاطمة بعد بدر , وبه صرح الذهبي بقوله " هذا الْحَدِيثُ غَلَطٌ، ولَعَلَّهَا أختُها سَلْمَى " , وقال غيره لعلها أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية فغلب الوهم على الرواة