في ظل احتفاء إعلامي متواصل بنماذج ورؤى وأنماط سلوك باعثة على الانحلال و العنف و السطحية المغذية لدواعي الفتور و الاسترخاء , فإن النظم التعليمية بالعالم الإسلامي تقع على عاتقها مسؤولية جمة لصيانة البناء الفكري والوجداني لناشئتنا, والحد من تأثير الإعلام المختل على سلوك الطفل و عقيدته و حريته الفكرية .
هذه المسؤولية تقتضي حتما تمكينه من صورة متوازنة للعالم حوله , و إكسابه مهارات التفكير النقدي الذي يُمكنه من التفاعل مع الرسالة الإعلامية دون الوقوع في قبضة المؤثرات العقدية و الثقافية المدمرة . وهو ما يُلزم المدرسة باستعادة دورها كمجال أمثل لبناء الشخصية السليمة و تأصيل القيم الإسلامية .
ولعل من بين الأولويات الأكثر استعجالا , والتي ينبغي أن تنكب هذه النظم على بلورتها و إدراجها ضمن مخططاتها التربوية هي الاستجابة لحاجة الطفل إلى نماذج للاقتداء و التأسي , و إشباع ميله الفطري للتقليد و المحاكاة . فمن المؤسف حقا أن يلجأ الطفل المسلم إلى استلهام القدوة من أفلام العنف و اللصوصية و حلبات المصارعة بينما يحفل تاريخ أمته بآلاف النماذج المشرفة التي تستحق أن تُدرج في مقرره الدراسي , وتُعرض , وهذا هو الأهم, وفق أسلوب يُغريه بمحاكاتها و التأسي بها في حياته اليومية .
وبما أن كل مجتمع يحرص على أن يُقدم لأبنائه النماذج التي تعبر عن هويته ,وتؤصل قيمه ومثله , وتعكس تصوره للوجود من حوله , فإن حياة الرسول صلى الله عليه و سلم هي النموذج الأسمى لغرس القيم , وتكوين شخصية الطفل المسلم وتوجيه مساره الخلقي .إذ لا نعلم في تاريخ الإنسانية كلها سيرة لنبي أو عظيم لقيت عناية وحفاوة ورصدا لأدق التفاصيل كمثل الذي لقيته السيرة النبوية على يد الرعيل الأول من الصحابة ثم تابعيهم من العلماء و المؤرخين . هذه الميزة الفريدة ترجع بالأساس إلى كون الحياة المحمدية هي المدخل العملي و التنفيذي لمبادئ الإسلام و أركان الشريعة , وهي بوابة الاتباع الحق لمن أسلم وجهه لله امتثالا لقوله تعالى ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله و يغفر لكم ذنوبكم و الله غفور رحيم ) آل عمران 31 .
و المتأمل في أفعال الرسول صلى الله عليه و سلم ومواقفه يُدرك حرصه الشديد على بناء الشخصية المسلمة وفق منهج متوازن يستجيب للفطرة السليمة , و يُحفز الإرداة الحرة على العطاء والإبداع مالم تصادم الشريعة . ولذلك تشكل السيرة النبوية سجلا تربويا حافلا بالقيم و المعاييروالمهارات الكفيلة بإحداث نقلة نوعية في كيان الطفل المسلم , لأنها " تمثل مواقف عالية من الإنسانية التي لا ترقى إليها مواقف أخرى ,وعرض هذه المواقف في سموها وعلوها تعطي التلميذ انطباعا بمحاولة التشبه والتأثر, وبخاصة إذا كان السلوك صادرا عن الرسول صلى الله عليه و سلم أوعن أحد صحابته وحوارييه "(1)
لكن , هل يمكن القول بأن حضور السيرة النبوية في النظم التعليمية هو حضور يعكس بالفعل المكانة التي تحظى بها عند المسلمين؟ وهل تحقق الأساليب المتبعة في تدريسها مقصد التأسي و الاقتداء , أم أنها تقف عند حدود الرصد التاريخي و السرد التفصيلي للأحداث ؟ إن الإجابة عن هذين السؤالين ترتبط بشكل وثيق بواقع تدريس التربية الإسلامية في مراحل التعليم قبل الجامعي , وهو واقع يؤكد الدارسون له بأنه لا يستجيب حتما للتطلعات و المرامي المُعلن عنها في المناهج الرسمية , و ينتج عنه بروز اتجاهات سلبية لدى المتعلمين إزاء مقرر التربية الإسلامية .
كيف نُدرس السيرة النبوية ؟
يقتصر الحضور التربوي للسيرة على جعل التلميذ قادرا على استيعاب الأحداث في بعديها الزماني و المكاني , كما يُستعان ببعض مواقف الرسول صلى الله عليه وسلم كمنطلقات لدرس الأخلاق و الآداب الإسلامية .وإذا كان هذا الحضور يُغني معارف الطفل ويبذر في وجدانه محبة الرسول إلا أنه لايُحقق مقصد التأسي الفعلي الذي نطمح إليه, إضافة إلى أن تغليب السرد التاريخي دون العناية بتحليل المواقف و رصد أبعادها يجعلها في نظر الطفل مبتورة الصلة بواقعه و مشكلاته اليومية . لذا فإن من أنسب المنطلقات المنهجية هو التوسع في تناول المواقف و تحليلها, و الاهتمام بدراسة الحقائق و المعاني و كشف الأبعاد الإنسانية . وهو ما يُزكيه الدكتور سعيد إسماعيل علي بقوله " ومن هذه الأساليب أيضا أن يتمحور تناول السيرة حول قضايا و مشكلات بدون الالتزام بالترتيب الزمني ,
إلا داخل القضية المختارة إذا كانت تقتضي ذلك , فاختيار –مثلا- بُعد الجهاد المسلح يقتضي تناول الغزوات بترتيبها الزمني , لكن قضية مثل السيرة كقدوة خلقية , فلا يشترط هنا ترتيبا زمنيا , وإن كان هذا لا يعني أيضا التغافل عن السياق الذي وُجد فيه الحدث الذي يُبرز هذه القيمة أو الفضيلة الأخلاقية أو تلك " (2) كما ينبغي حفز الطفل على إعمال فكره في استنباط القيم و المباديء والسلوكيات الإيجابية بدل تقديمها في قالب وعظي مباشر, وهو ما يُلزم المدرس بتوظيف وسائط تعليمية في عرض أحداث السيرة , كالخرائط و الصويرات و الوسائل السمعية البصرية.
ويرتبط إحداث النقلة النوعية في تدريس السيرة ارتباطا وثيقا بكفاءة المدرس و فاعليته , ومدى حرصه على تفعيل الجانب الإجرائي و العملي للحقائق و المفاهيم التي يُلقنها لتلاميذه . ذلك أن خصوصية التربية الإسلامية , وانفرادها بمهمة تهذيب الوجدان و الارتقاء بدوافع الطفل و سلوكه تتطلب إعداد مهنيا دقيقا , وتلقي على كاهل المدرس مسؤولية توجيه سلوك التلاميذ و حملهم على التطبيق العملي للمثل و القيم الكفيلة بتحقيق اندماج أفضل .
إن استعادة الشخصية المسلمة رهان ينبغي كسبه في عالم يشهد قفزات سريعة على مستوى التطور المادي لكنه يعيش في الآن ذاته تجليات ردة روحية و أخلاقية مدمرة .و ميزة السيرة النبوية أنها تقدم نماذج
بشرية للقيم و المباديء الإسلامية ¸كما تهيء للمسلم المعاصر ما يلزمه من مقومات لبناء المجتمع الصالح, و إعادة تأكيد هويته الإيمانية الحقة .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) محمد صلاح الدين مجاور: تدريس التربية الإسلامية . الكويت. دار القلم 1976 .ص 315
(2) د.سعيد إسماعيل على . السنة النبوية رؤية تربوية . دار الفكر العربي.القاهرة 1423 هـ .ص 511 – بتصرف -