معلوم أنّ الدّعاة والمربّين يحتاجون إلى عمليّة تقويم دعويّة مستمرة لبعض الأفراد أو كلّهم داخل الصّفّ وخارجه، ضمن دائرة الالتزام الإسلاميّ العامّ أو حتى خارج هذه الحدود، وهي عمليّة ذات شقّ تربويّ وآخر إداريّ، ولها ما يسوّغها؛ إذ هي تمارس بسبب ضرورات العمل.. وتكون عمليّة التّقويم هذه جرحًا أو تعديلاً، تضعيفًا أو توثيقًا، وقد تتضمّن كليهما معًا، كما قد تكون مجملة أو فيها بعض التّفصيل بضوابطها وشروطها.
لكن حين تغيب الضّوابط الحاكمة لعمليّة التّقويم فإنّه يصير منزلقًا وعرًا ويمارس بشكل خاطئ فتترتّب عليه آثار خطيرة يتعدّى مجالها الحدود الضّيّقة... ومرجع ذلك غالبًا إلى عدّة أمور على مستوى من يقوم بالتّقويم منها: التّرف الفكريّ، أو حبّ استغابة النّاس، أو الخصومة الشخصيّة، أو الغلوّ النّظريّ في بعض الأحيان تلذّذًا بالعمل العقليّ المرافق لتلك العمليّة، ووقفتنا هنا مع بعض آثار التّقويم حين يتمّ بشكل خاطئ، ويتجاوز حدوده المشروعة فيتحوّل إلى سوء ظنّ واتّهام بغير يقين..
* ترى هل تلوّث المجتمع وخربت النّفوس حتى أصبح سوء الظّنّ والشّكّ بالآخرين خيارًا لا غنى عنه؟
* الدّعاة والعاملون للإسلام شريحة من المجتمع ينبغي أن تؤثّر فيه أكثر ممّا تتأثّر به، فإلى أيّ مدى انتقلت آثار عدوى سوء الظّنّ إليهم..؟!
* هل سوء الظّنّ مرض نفسيّ أم سلوك فطريّ أم ذكاء دعويّ واجتماعيّ؟!
* لماذا نشكّ بالآخرين وهل الشّكّ فضيلة تحفظ للدّاعية خطوطه الخلفيّة أم أنّه سوء طويّة ونيّة؟
* إلى أيّ درجة ينبغي أن يكون هناك هامش للشّكّ والحذر حتى لا نقع ضحايا غفلة؟!
* هل يجوز للمسلم -فضلاً عن الدّاعية- أن يقع في عِرض أخيه بحجّة التّقويم الدّعويّ وأنّ سوء الظّنّ من حسن الفطن؟!
ما أعجب النّفوس:
سبحان الله! لكأنّ النّفس تبحث عمّا يجلب لها الذّنوب، وتنسى موقف العرض والحساب... إنّ ذلك الخلق الذّميم الذي يغلب على النّاس اليوم ربّما ظنّوه نوعًا من الفطنة وضربًا من النّباهة، في حين أنّه غاية الشّؤم. فمرضى القلوب لا ينظرون إلى الآخرين إلاَّ من خلال منظار أسود، والأصل عندهم في النّاس أنّهم متّهمون بل مدانون... وقد يصل الحال ببعضهم إلى العيب على من لم يتّصف بهذا الخلق ويعدّونه من السّذاجة، وما علم المساكين أنّ إحسان الظّنّ بالله أوّلاً وإحسان الظّنّ بالمسلمين ممّا دعا إليه الدّين الحنيف و"حسن الظّنّ من حسن العبادة"... في حين أنّ سوء الظّنّ داء خفيّ ومهلكة وبلاء لا يكاد النّاس يسلمون منه بدافع من خير أو دافع من شرّ، فهذا يسيء الظّنّ بقصد الشّرّ والفتنة، وذاك يسيء الظّنّ بقصد الخير والعافية، وكلاهما في الحقيقة سيّئ الظّنّ... ولو أنّ الأخير ما قصد إلاّ الخير، إلاّ أن إساءته الظّنّ بأخيه المسلم لربّما كان أشدّ وطأة وفتنة وأثرًا ممّن أساء الظّنّ قاصدًا للشّرّ والوقيعة...
ربّما إذا اتّخذ المرء موقفًا سلبيًّا تجاه آخر وقاطعه، فلا أسف عليه إن كان الآخر يستحقّ وتمّ الأمر في حدود التّقييم المنصف الذي لا حرج فيه، لكنّ المشكلة الحقيقيّة إذا كان من نسيء الظّنّ به بريئًا، ويزداد الأمر صعوبة إذا كان من يقع في ذلك المنزلق الخطير هم الدّعاة والعاملون لدين الله وحملة رسالته. فحينها ينحرف التّقويم عن مساره الصّحيح وتقع الفواجع والمصائب على أناس أبرياء؛ إذ ليس من السّهل أن يُرمى الإنسان بما ليس فيه، وكفى به بهتانًا وإثمًا كبيرًا..
وغالبًا ما يحمل الشّيطان الواحد من محترفي التّصنيف ظنًّا وبهتانًا على احتقار إخوانه وإطالة اللّسان في أعراضهم بحجّة "المبالغة في التّوثيق طلبًا لسلامة الصّفّ"... فيتذرّع بأمر ظاهره فيه الرّحمة وهو "الحفاظ على الدّعوة" في حين أنّ التّجاوز فيه من أعظم التّجنّي على أعراض المسلمين عامّة والدّعاة منهم خاصّة... وما درى أنّه بذلك يخرق حرمة الاعتقاد الواجب في موالاة المؤمنين وحفظ أعراضهم، وأنّ كلّ ما يقوم به من تجاوز -بغير حقّ متيقّن- من المهلكات المنهيّ عنها... ولم يدرك إنّما استزلّه الشّيطان الذي لا يكاد يفتر عن التّحريش بين المؤمنين ليفرّق بينهم ظلمًا وعدوانًا
المؤمن يطلب المعاذير، والمنافق يطلب الزّلاّت:
إن ّتحريم النّيل من عرض المسلم معلوم من الدّين بالضّرورة، بل من الضّروريّات التي كفلتها الشّرّيعة، فالقلوب وأحوال العباد لا يعلمها إلاّ ربّ العباد، وقد يبدو للإنسان شيء فيحمله على وجه سيّئ، ويكون الحقّ في الوجه الآخر... ومن يتأمّل حقيقة البشر، من حيث الذّهول والضّعف والنّسيان.. وجد نفسه مرغمًا على التماس العذر لهم، وعدم مؤاخذتهم بما يصدر منهم من أمور يمكن حملها على الوجه الحسن، ولو باحتمال ضعيف.. فيقدّم الاعتذار على التّهمة، والتّـسامح على المؤاخذة، وحسن الظّنّ على سوء الظّنّ.. فكثيرًا ما ينسى الإنسان نفسه، ويقع في أمور لا يحسب لها حسابًا، ويتلبّس بالشّبهات وهو لا يدري ولا يقصد، أو يتكلّم بالكلمة ولا يقصد ما وراءها من لوازم، بل هو ذاهل عنها... وربّما نرى إنسانًا في أمر ما فلا نظنّه إلا مسيئًا عاصيًا، ونتكلّم فيه، وننشر خبره لمجرّد التّهمة أو تحليل موقف ما، ثم إذا اتّضح الأمر، وبانت الحقائق ظهر أنّنا كنّا مخطئين لكنّنا لم نتحرّز.. وحكمنا قبل أن نتيقّن..
إنّ التّسرّع بالحكم على النّاس يفضي إلى بلايا ومصائب تكون محصّلتها نفوس تتحطّم، وبيوت تتهدّم، وصلات تتقطّع، وأعراض تُتّهم، وسمعة تُدمّر، وصور مضيئة تُشوّه، ومؤسّسات تتردّى بسبب سوء الظّنّ... وحين ندرك الخطأ فلات حين مندم وقد لا ينفع اعتذار.. ولذا لا يحلّ لأحد أن يتّهم أخاه أو ينسب إليه نقصًا في دين أو مروءة أو أيّ فعل من شأنه أن ينقص من قدره أو يحطّ من مكانته قبل التّثبّت، فكم من خبر لا يصحّ أصلاً، وكم من خبرٍ صحيح لكن حصل عليه من الإضافات ما حُرّف وغُيّر وبُدّل... وأخوّة الإيمان تحمل لزومًا على تقديم حسن الظّنّ بالمؤمن، فهو في أصل الأمر لا يريد شرًا، والتّعامل معه وحمل ما يصدر منه على هذا الأصل يوجب حسن الظّنّ.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: "لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانًا. المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه، ولا يحقره ،ولا يخذله. التّقوى ههنا (يشير إلى صدره ثلاث مرات). بحسب امرئ من الشّرّ أن يحقر أخاه المسلم. كلّ المسلم على المسلم حرام: دمه، وماله، وعرضه"، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا يعجبنّكم طنطنة الرّجل، ولكن من أدّى الأمانة، وكفّ الأذى عن أعراض النّاس فهو الرّجل.
ولو قدّر الظانّ الله حقّ قدره، وعظّم شرعه لعظمت في نفسه حرمة المسلم؛ لأنّ الأصل بناء حال المسلم على السّلامة والسّتر؛ ولأنّ اليقين لا يزيله الشّكّ، وإنّما يُزال بيقين مثله، لهذا كان الملتمس للمعاذير مؤمنًا، أي مثابًا على ذلك؛ لأنّه يحزنه ولا يرضيه الطّعن في أخيه، فيجهد نفسه وعقله ولسانه بالدّفاع عنه، وينظر للنّاس بعين صالحة، ونفس طيّبة يبحث لهم عن الأعذار، ويظنّ بهم الخير... "والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده". وقد قيل: "التمسْ لأخيك ولو سبعين عذرًا".
بينما الطّالب للزّلاّت وإظهار المعايب منافق، وذلك لخبث باطنه وسوء طويّته؛ فهو يرى النّاس في مرآة نفسه فيظنّ بهم السّوء، ويبحث عن عيوبهم... ويطيّر الأخبار بلا تثبّت ولا تعقّل ،وتلك ذنوب مضافة فلا ثواب له؛ لأنّه لا يدفع عن عِرض المؤمن، وهذه ليست بصفات المؤمنين... وأكثر من ذلك أنّ احتراف التّجريح هو وصف من الشّخص لدخائل نفسه وإظهار لما يحمله من ميول ودوافع؛ إذ هو يقيم الشّاهد على نفسه من فَلَتات لسانه، وتصبح إدانته من فمه... وقد أثبتت التّجارب العمليّة أنّ من حرّك الرّيح سوف يحصد الزّوبعة، وربّما يُبتلى الجرّاح القداح بمن يشينه بأسوأ ممّا رمى به غيره مع ما يلحقه من سوء الذّكر.
ضحايا سوء الظّنّ وحرق الكفاءات:
في ظلّ هذا الإرجاف قلّ من النّاس من لا ينثني أو يتقوقع أو ينكسر، وربّما كان أحسنهم حالاً من يلجأ إلى العزلة الشّعوريّة فيجعلها حلاً - وهي بلا شكّ غاية في نبل النّفس وصفاء المعدن ورفعة خلق المسلم، ومعونة عظيمة على نقاء السّريرة والصّفاء، والإعراض عن الجاهلين... لكن كم يا ترى ممن يُساء بهم الظّنّ يجيد ذلك؟!
وهنا يصبح تصنيف الدّعاة ورَمْيهم بالنّقائص باسم التّقويم ناقضًا من نواقض الدّعوة، ومساهمة في تقويضها؛ لأنّه ينكث الثّقة، ويقطع أواصر المودّة، ويقضي على روح الألفة، ويولّد الشّحناء والبغضاء، فينصرف النّاس عن الخير، وتحرق الجهود... وبقدر هذا الصدّ يفقد العمل تلك الطّاقات، فنفتح السّبيل للطّفيليّين والزّائغين وذوي المصالح الذين يستفيدون من الدّعوة ولا يفيدونها!!
إنّ من يفهم نفوس البشر يعلم أنّ أقسى شيء عليها هو سوء الظّنّ والتّلبيس والتّخوين واتّهام النّيّات؛ ذلك أنّ الإحساس بالظّلم والألم والمشاعر السّلبيّة التي تتكوّن جرّاء ذلك عند أصحاب النّوايا الطّيّبة وعطايا النّفس الكريمة الذين يتّهمون ظلمًا، لا يمكن وصفه.. إنّه جرح للنّفس، وكسر للقلب، وإهانة لمشاعر راقية، وتحطيم لأخوّة الإيمان... والإحساس المؤلم حقًّا هو عدم القدرة على الدّفاع عن النّفس، أو الصّمود أمام نظرات ظنّ سيّئ، وأقساها على الإطلاق ما أتت من غالٍ، أو عزيز، أو أخ، و رفيق درب له في القلب مكان!!
ولو تصوّرنا حال من يقع ضحيّة الجرح دون تثبّت، لربّما عجزت الكلمات عن وصف شعورهم.. فحين ظنّوا أنّهم يتبادلون مع إخوان الدّرب ورفاق الدّعوة نوعًا من الحبّ خاصًا، حبًّا عذْبًا رقراقًا سرمديًّا، لا تؤثّر فيه المواقف ولا تنال منه الأحزان... واعتقدوا أنّ القلوب تتخاطب بلغة تفهمها لا لبس فيها ولا تنازع بينها، ولا منافع دنيويّة، وإنّما بذل وتضحية وإيثار بكلّ رضا مع صفْح وتغافر.. فجأة يكتشفون أنّهم وهموا، وأنّهم كانوا سذّجًا مخدوعين!! ذلك حين تتجلّى لهم جوانب خفيت عليهم، وكيف كان يقيّمهم بعض من حولهم، و بأيّ نظرة يتعاملون معهم... في تلك اللّحظة الكاشفة تستدعي الذّاكرة مواقف سابقة ربّما حاروا في تفسيرها، وأعياهم فهمها في حينها، لكنّها الآن باتت لا لبس فيها.. فإذا عرف السّبب بطل العجب. نعم، إنّ الأمور مرهونة بحقائقها، وقد يكتشف محترفو الظّنّ أنّهم أخطؤوا وتجاوزوا بغير حقّ، لكن حتى حين تظهر الحقائق - لو قدّر لها أن تظهر- وحين تفسّر المواقف على الوجه الأصحّ، ويعلم أصحاب سوء الظّنّ أنّ ذلك المتّهم ظلمًا أرفع عن كلّ ما ظنّوه به، يبقى بأعماق قلبه جرح ينزف لا يبرأ على مرّ السّنين..
ومن تجرّع تلك السّموم ممّن حوله، ورُمي فصبر واحتسب رغم تلك الجروح الغائره في القلوب – وهو صبر عظيم لا تطيقه إلاّ النّفوس الصّافية التي تتطلّع لعظيم الأجر- فلن يضيّعه مولاه ولن يخذله أبدًا؛ فإنّ الله يدافع عن الذين آمنوا... ليستمسك بما هو عليه من الحق ّوسلوك جادّة الصّالحين رغم فداحة الخسارة وعمق الألم، ولا يفُتّنّ في عضده تهييج المرجفين، ولا يبتئس بما يقولون أو يفعلون.. وله في يوسف الصدّيق قدوة (فلا تبتئس بما كانوا يعملون).. ولينطلق صوته قويًّا (كلا إنّ معي ربي سيهدين)... وربّه تعالى بشّره بإجابة دعوته ونصره (وعزّتي وجلالي لأنصرنّك ولو بعد حين)؛ فهذا وعد الله بأن يخل له وجه الحقّ فيكون به قرير العين رضيّ النّفس، ذلك لأنّ دعوته خرجت ممهورة بآلام القهر الذي لا يعلم مداه إلاّ من بيده قلوب العباد، مشفوعة بقطرات من دموع القلب الحارّة في جوف اللّيل، وحين استرجع واحتسب انطلقت من حناياه (ربّ إنّي مغلوب فانتصر) تحملها إلى رحاب الرّكن الشّديد أجنحة (حسبنا الله ونعم الوكيل)... لتستجير بربّ العرش العظيم، مفرّج الكربات ومغيث اللّهفات، كاشف الشّدائد والبليّات، سامع كلّ نجوى وعالم كلّ شكوى.. فتنفذ لا تقف أمامها جدر ولا تردّها حجب... وتفتح الرّعاية الرّبانيّة نافذة (بردًا وسلامًا)، ولسان حاله (يا ليت قومي يعلمون).
الإنصاف صمّام الأمان:
ولم تزلْ قلّة الإنصاف قاطعةً ... بين الرّجالِ وإن كانوا ذوي رحمِ
إنّ الأصل يقتضي أن تكون مواقف الدّعاة عاكسة لقلوبهم، فهي متحابّة نقيّة، متلاقية على معنى علويّ رفيع، فلا ثمّ رغبة في شهرة، ولا استعلاء على الغير، ولا سعيًا إلى انتصار في خلاف زائف -خاصّة في مواقف التّقييم- بل ميزان حسنات وسيئات، فحيثما كانت مراقبة الرّبّ تعالى كانت الطّاعة والهداية والنّجاح والفلاح... وما أشدّ الحاجة للإنصاف بل إلى الرّسوخ في الإنصاف كي لا نجحد ما للإنسان من فضل... وهذا لا يتأتّى إلاّ بقدر كبير من تجرّد وخلق رفيع، ودين متين...
فاللّهم سلّم قلوبنا واصرفْ عنّا خواطر السّوء، ولا تجعلنا ظالمين لأحد من خلقك، ولا معتدين على أيّ من عبادك بعمل أو قول أو ظنّ، واحفظ اللّهم الدّعاة المخلصين، والعلماء العاملين، ووحّد صفّهم، واجمعْ على الحقّ شملَهم، وأذهبْ غيظَ قلوبهم، وجنّبهم الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللّهم آمين..