ما أحوج الأمة الإسلامية اليوم إلى تحريك مشاعر الأخوة الإيمانية , واستلهام العظات و الدروس من الهدي االنبوي الشريف . خصوصا في ظل ما خلفه الربيع العربي من تدافع إيديولوجي و سياسي تجاوز سقف الاختلاف المشروع, ليلهب روح الخصام و التنافر القبلي و الحزبي بين أبناء الملة الواحدة .
فحين آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين و الأنصار , في تجربة فريدة لم تشهد الإنسانية نظيرا لها , لم يكن فقط يُدبر أزمة اقتصادية مؤقتة نشأت عن الازدحام السكاني , بل كان يترجم مباديء الإسلام في قلوب وعقول أصحابه إلى وقائع عملية .وينشيء مفهوما للأخوة ينهل من معين التوجيه الرباني , لا من كدر القبيلة و الدم .. و الأسلاك الشائكة !
تمت المؤاخاة إذن في دار أنس بن مالك بين تسعين رجلا , نصفهم من المهاجرين و النصف الآخر من الأنصار .وتضمن العقد شروطا نافذة نصت على المواساة و التوارث دون أولي الأرحام ,فأكسب النبي صلى الله عليه و سلم تلك الأخوة بعدا عمليا لا يقف عند حدود الثرثرة اللفظية . يقول الشيخ محمد الغزالي في توصيفه لهذه التجربة " ومعنى هذا الإخاء أن تذوب عصبيات الجاهلية فلا حمية إلا الإسلام , وأن تسقط فوراق النسب و اللون و الوطن .فلا يتأخر أحد و لا يتقدم إلا بمروءته وتقواه .وقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم هذه الأخوة عقدا نافذا لا لفظا فارغا , وعملا يرتبط بالدماء و الأموال لا تحية تثرثر بها الألسنة و لا يقوم لها أثر " (1)
وككل حدث تاريخي تسبقه ممهدات وعوامل موضوعية , فإن العهد المكي للدعوة توافرت فيه مزايا الفضاء المناسب لتربية النفوس وتزكيتها .حتى إذا حصل الإعداد الكامل , وتشرب القلب معاني الولاء و البراء , وانحاز المسلم إلى جانب العقيدة , أمكن آنئذ بناء الجماعة الإسلامية في فضاء مغاير , وفي بيئة اجتماعية تغيب فيها وشائج القرابة و الدم و العصبية !
إن صنوف الحرمان و الإيذاء النفسي و البدني التي لاحقت المسلمين قبل الهجرة صهرت أرواحهم في بوتقة الأخوة الإيمانية , بعد أن رجحت صلة العقيدة على ما دونها من الصلات .كان الامتحان عسيرا : أن يتحدى الإبن أباه , و العبد سيده , وتتجلد العصبة المؤمنة أمام الحصار و التجويع . لكن المنهج النبوي في تربية الأفراد , وترجمة معاني القرآن إلى واقع حي ومتحرك , هيأ لهذه الجماعة المستضعفة نوعا من التسامي الوجداني , و التماسك وفق مبدأ التآخي العام الذي أكده القرآن منذ بدء الدعوة . وهذا ما انتبه له الشيخ الغزالي بقوله " الإخاء الحق لا ينبت في البيئات الخسيسة , فحيث يشيع الجهل و النقص والجبن و البخل و الجشع , لا يمكن أن يصح إخاء ! وتترعرع محبة .ولولا أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جُبلوا على شمائل نقية , واجتمعوا على مباديء مرضية ما سجلت لهم الدنيا هذا التآخي الوثيق في ذات الله "(2)
لكن , إذا اعتبرنا موقف المهاجرين في حادثة المؤاخاة ثمرة للمنهج التربوي القرآني و النبوي , فبماذا نعلل إذن ما أبداه الأنصار من استقبال فريد , وتأكيد على الأخوة بالتنازل حتى عن فائض الزوجات لمن جاء إلى يثرب بغير زوج ؟ إن ما أبدوه من مسارعة لإيواء إخوانهم , ومقاسمتهم كل ما يملكون , بل وإيثارهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة , لهو سلوك لا يصدر إلا عن نفوس تشربت الإيمان حتى فنيت فيه !
هل ننسب الأمر للتربية النبوية , وهم الذين لم يجتمعوا بالنبي صلى الله عليه وسلم سوى لحظات معدودة تحت جنح الظلام , لما قدموا لبيعة العقبة الثانية ؟
أم ننسبه لرغبتهم في الاستعلاء على العرب بينما هم يأوون جماعة مستضعفة من المسلمين ؟
بل حتى التعليل الذي تسوقه كتب السيرة بشأن ما أذاعه اليهود , وتلقفته أسماع الأوس و الخزرج, عن قرب ظهور نبي في بلاد العرب يثير في الأذهان تساؤلا حادا مفاده : أين كانت القبيلتان طوال فترة الدعوة بمكة ؟ ولم لَم تسارعا لنصرته تصديقا منهما لنبوءة اليهود على الأقل ؟!!
إن التبريرات العقلية تقف عاجزة عن إدراك سر التحول في موقف الأنصار , من سعي للتحالف مع قريش ضد أبناء عمومتهم من الخزرج , إلى نصرة للجماعة المسلمة المستضعفة , وإيواء و إخاء عز لهما نظير!
لا نملك سوى الإقرار بما خلص إليه أحد الباحثين , وهو أننا أمام آية إلهية بثت في روع القبيلتين هداية جماعية لتكريم النبي صلى الله عليه وسلم , وتثبيت الذين آمنوا معه "وكم في السموات و الأرض من آيات يتخيلها الجاهلون أمورا عادية" (3)
ترتب عن حادثةالمؤاخاة جملة من الآثار الحميدة التي يمكن حصرها كالآتي :
* تقديم الآصرة الإيمانية على آصرة النسب و القرابة و الدم : وبذلك تم تذويب العصبيات الجاهلية , وتأصيل المودة في قلوب المهاجرين و الأنصار على السواء .
* ضمان الاستقرار اللازم لبناء الدولة الإسلامية : وهنا تصبح آصرة المودة و التآخي شرطا لنهوض و استقرار اللدولة , لأنها تعمل على إشاعة الروح الإسلامية التي هي العصب المحرك لإرساء قواعد مجتمع جديد .
* استباق الأزمات : حيث شكلت المؤاخاة صمام أمان إزاء التقلبات و الأحداث التي شهدتها المدينة , خصوصا بعد تشكل طبقة المنافقين , وانكشاف مؤامرات اليهود . بل إن فاعليتها السياسية امتدت لما بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم , حين مكنت من تذويب الخلاف الناشيء في سقيفة بني ساعدة !
* تدبير الوضع الاقتصادي الطاريء : إذ حرص النبي صلى الله عليه وسلم من خلال المؤاخاة على إيجاد تشريع ملائم ييسر للمهاجرين معاشهم كي لا يظلوا عالة على إخوانهم .
ولم يأل الأنصار جهدا لبذل ما في وسعهم , والتخفيف عن المهاجرين مما يُلازم النفس عادة من ألم الوحشة ومفارقة الديار , حتى قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : "ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم أحسن بذلا من كثير , و لا أحسن مواساة في قليل , قد كفونا المؤنة, و أشركونا في المهنأ" (4)
إن قصة عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع لهي أروع مثال على صدق التطبيق العملي لعقد المؤاخاة , حين يبلغ الإيثار حد تقاسم الأزواج. وهي الدليل على أن المجتمع الذي تكون العلاقة بين أفراده محكومة بمثل هذه المعايير الدينية , يرقى إلى درجة من التماسك و الوحدة تؤهله لبلوغ مرحلة التمكين , وتحقيق نهضة سوية .وهو ماحذا بالشيخ الغزالي إلى مطالبة الحكام بفرض نظام المؤاخاة على الناس " فإذا لم يُؤدوها طوعا أدوها كرها , وذلك كما يُجبرون على العلم و الجندية و أداء الضرائب" !
ما أحوجنا اليوم إذن إلى المؤاخاة العملية ..تلك التي تتجاوز حدود الثناء البارد , و العبارات الطنانة , لتجلو عن حوزة الإسلام ما تثيره حوافر أعدائه من غبار الحمية الجاهلية !
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) : محمد الغزالي .فقه السيرة.دار الشروق. ط2 . 1424هـ. ص 138
(2) : مرجع سابق .ص 139
(3) : راجع , إن شئت, مجمل التبريرات العقلية لموقف الأنصار و الرد عليها في كتاب : السيرة النبوية تحت ضوء العلم و الفلسفة للكاتب الإسلامي محمد فريد وجدي .الدار المصرية اللبنانية . ط1 1413 هـ .ص143-148
(4): رواه الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس بن مالك .ترتيب أحمد البنا.ج21 ص