كما ان كلا منا يولد على الفطرة , فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه , فكذلك يولد المولود على محبة جلب الخير لنفسه ودفع الضر عنها , بل أن كلا منا يولد ولديه استعداد بيولوجي ونفسي لِتَكون الطبيعة الديكتاتورية في نفسه البشرية إن ترك نفسه نهبا لمؤثراتها وهواها ، ويدفعه لذلك دافعه لحب البقاء والارتقاء ، ولكن منا من يكبح جماح عواصف الديكتاتورية التي تعتري نفسه بلجام الإيمان والتربية والتنشئة الاجتماعية والدينية السليمة، ويتعلم منها فضائل العدل والتواضع وكيف يشارك الأخرين أفراحه وأتراحه.
وحب الذات مجردا ليس مرضا في ذاته بل هو من الغرائز الفطرية التي فطر الله – عز وجل – بها الانسان منذ ولادته، ثم لينمو ويتعلم ويختار طريق الصواب، أو الطريق الآخر، لذا قال تعالى ( قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ) سورة الشمس - آية 9،10، فحب الذات دافع للفرد نحو التطلع للأحسن في حياته، ولكن هي سلاح ذو حدين إذا زاد عن حده المقبول تحول من حب ذات إيجابي يدفع الفرد للنجاة من عذاب الله وعقابه ورغبة الفلاح في الدارين ويكون دافعا للنجاح والتفوق إلى حب ذات مرضي، يمنعه من التواصل الفعال مع من حوله، ويحوله لوحش يلتهم من حوله من اجل مصلحته.
لذا فالتربية الإيمانية والسلوكية وتهذيب الوازع النفسي " الضمير " عامل هام وحاسم في القضاء على آفة الديكتاتورية وحب الذات والتمركز حولها، فالطفل إذا حسنت تربيته منذ الصغر تسامى على تلك النوازع التي تتنازعه من أجل إرضاء ربه أولاً، وكذا إرضاء من حوله وإرضاء نفسه، لكي يعيش راضيًا عن نفسه، منسجمًا مع من حوله مشاركًا إياهم الحياة بتفاؤل وتواضع.
ولكن إذا غابت التربية وضيعت ملامحها منذ الصغر في حياة الطفل، وتشابه عنده القبيح والحسن، تمكنت منه تلك النوازع ومال إلى التمركز حول ذاته، واتخذ الأنانية صفة ثابتة فيه، وخيلت له نفسه أنه مركز هذا الكون وأن كل من حوله يعملون له ولراحته فقط.
وربما يغلب ذلك الشعور على الطفل الوحيد بداخل الأسرة، نتيجة لتدليل الوالدين له باعتباره ( الوحداني )، فأسلوب التنشئة والنظام الأخلاقي والديني الذي يشب عليه الطفل، والمجموعات التي يختلط بها، تسهم بشكل كبير في تحديد مدى تأثره بجينات الديكتاتورية المغروزه في نفسه.
وقد أثبتت الدراسات الحديثة أن الاطفال الذين يغلب عليهم الطابع القيادي، هم الأكثر عرضة للتحول الديكتاتوري، لأنهم بطبعهم اطفال متقلبي المزاج، يميلون للسيطرة على من حولهم من أشخاص وأشياء، وأنه إذا لم يتم التعامل مع الطفل القيادي بشكل علمي مدروس فإنه يتحول إلى مشروع ديكتاتور يمشي على الأرض.
كل ذلك إنما هو دليل على أهمية تربية النشء على الخير والصلاح والاهتمام بهم، وان السنين الأولى من العمر هي البصمة التي يضعها الوالدين على شخصية ونفسية أبنائهم، فعالم الأبناء ما هو إلا نسخة مصغرة من عالم الكبار، فالطفل لا يجد سوى والديه ليكونا له قدوة، لأنهما أول شخصين يحتك بهما في حياته كلها، فإذا كان هناك أب يشتكي من عناد أبنه وعدم قبوله لأراء الآخرين، فهو قطعة منك وامتداد لك، فراجع نفسك وتصرفاتك وسلوكياتك أمامه .
كما لاننسى أهمية الأسرة وترابطها على تصرفات الطفل القيادي، فانفصال الوالدين أو كثرة الأزمات بينهما يؤدي لإحداث معوق مؤقت في عملية التربية، مما قد ينتج عنه طفل معتد برأيه، متمركز حول ذاته، ولنا أن نذكر أن معظم الديكتاتوريات التي ظهرت في العالم، نشأت في أسر مفككة ينعدم فيها الشعور بالأمان والحنان .
كذلك تكمن المشكلة في التعامل مع الطفل القيادي على أنه طفل ( متقلب المزاج )، فإذا تعاملنا معه بالقهر والكبت وعدم اللين فيتحول إلى إنسان ممسوخ ليست لديه شخصية، ولو تعاملنا معه بإستهزاء أو بتضخيم ربما يتسبب هذا في تشجيع معنى الديكتاتورية داخله ، فعلينا أذن أن ننمي الناحية القيادية وننزع منه نقطة الأنانية، وكذلك نتعامل مع الأنانية بحرص وعدم كبت فنوضح له أنه اليوم قائد وغداً فرد ضمن المجموعة، فلابد من تنمية روح التعاون والبذل والعطاء وتحمل المسئولية في أبنائنا، بحيث لا تطغى عليهم جزئية الأنانية.
وإيجاد نوع من العلاقة المشاعرية بين الوالدين والأبناء يجعل تقبل النصيحة من الأبناء شيئا مقبولا ، ولا ننسى قوله تعالى ( وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ ) سورة آل عمران - الآية 159.
الشورى دواء
لاشك أن الشورى عامل حاسم في ضرب داء الديكتاتورية في مقتل، فوجود مساحة من التسامح والاستقلالية في التعامل مع الطفل القيادي، من شأنها إبراز روح القيادة وتنمية جوانبها في شخصية الطفل، بدون إفراط أو تفريط.
ويمكن لنا استخدام الأسلوب العملي للتخلص من التسلطية والاستبداد في نفوس أطفالنا، فبطريقة لعب الأدوار ( السيكودراما ) يمكن لنا توضيح فكرة أن القائد المستبد يكرهه من يتبعونه ولا يرضون زعامته، ونخط في نفوسهم فكرة أن التقي الشجاع هو الذي يلتف الناس من حوله. في محاولة عمليه منا لإفهام الطفل بأن القيادة يكتسبها ممن حوله؛ وأهم شيئ فيها – أي القيادة - أنها ليست مكاسب فقط بل إن هناك ثواباً وعقاباً لأنها مسئولية، ونوضح لهم هذا بدرجة لا تخيفهم ولا ترهبهم، فالتربية حالة وسطية بين كل حالتين كلاهما متضادان، فبين القيادة والأنانية شعرة لا ينبغي قطعها، وهي معادلة صعبة يجب على الوالدين والمربين أن يحسنا التعامل معها.
فالطفل الذي يشب على المشاورة وأخذ رأيه يصعب على الطبع الديكتاتوري ان يتغلب عليه أو أن يطغي على شخصيته، ويجب علينا كوالدين ضرب القصص لأطفالنا حول المشاورة وأخذ الرأي، وأن نكون – أي الوالدين – قدوة عملية في التشاور والتناصح، كما كان حال الرسول – صلى الله عليه وسلم – مع زوجته أم سلمة حين استشارها في تباطؤ الصحابة رضوان الله عليهم في تنفيذ أمر ذبح الهدي، فأشارت عليه ألا يكلم أحدا منهم، وأن يخرج هو فيذبح الهدي، ويأمر حلاقه أن يحلق له، فإنهم إن رأوا هذا استجابوا لأمره، وقد استجاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لنصيحتها، وطبقها، وكانت بركة استشارة أم سلمة على الأمة كلها، لأن مخالفة الصحابة أمر الرسول قد يكون فيه هلاك لهم جميعا.
الرأي .. والرأي الآخر
كذلك على الوالدين تعويد الطفل تقبل الرأي الآخر، وقبول الآخرين مهما كانت درجة الاختلاف، مع ضروة ترسيخ الثوابت التي لارجعة فيها في نفوس أطفالنا، فالفكر الشمولي الذي يزعُم أنه الحق الأوحد ولاصواب عداه، هو تربة خصبة لنمو الديكتاتورية والطغيان، ولنا في رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أسوة حسنة، فحينما ذُكر أمامه حلف الفضول؛ ورغم أنه كان حلفًا تم في الجاهلية وعلى قواعدها، إلا أنه قال ( لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ، لو دعيت به في الإسلام لأجبت .. )
ولاننسى أن تعويد الطفل على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، هو وسيلة مهمة لوأد الديكتاتورية في مهدها، ومنع لكل طفل تسول له نفسه أن يكون ظالمًا، فإنه سيخشى وقفة الجميع ضده.
وختامًا أن تربية أطفالنا على تقوى الله في السر والعلن، في التعامل مع النفس والتعامل مع الغير، هو أنجع سلاح للتخلص من كافة الأدران التي تعلق بالنفس ومنها بالطبع الديكتاتوري، فإن الطفل إذا وعى لقوله - صلى الله عليه وسلم -: ( كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته )، لشب غير متكالب على سلطة ولاجاه، وشبت نفسه عفيفة تأبى الذل لها ولغيرها.