مَا مِنّا إلاّ وقد مرّ به في حياته معلّمون ناجحون ، تركوا بصمَاتهم المميّزة على شخصيّته ، ولا يزال يذكر توجيهاتهم التربوية ، ونجاحهم في التعليم ، ويشهد بتأثيرهم العميق في نفسه ، وتأثّره بهم في أكثر من مجال من حياته ..
وقد قلّبتُ الفكرَ والنظر مرّات ومرّات ، وأنا أستعرض شخصيّة هؤلاء المعلّمين الناجحين ومواقفهم ، وذكرياتي مع من عرفتهم شخَصيّاً ، أو سمعت عنهم ، أو قرأت .. وقد رأيت بعد البحث والنظر : أنّ سرّ نجاح هؤلاء وتألّقهم ، والأمر المشترك الذي يجمع بينهم : " أنّهم كانوا يحبّون مهنتهم حبّاً جمّاً ، دفعهم إلى إتقان العلم وتحصيله ، وإتقان فنّ توصيله إلى طلاّبهم بصورة مميّزة محبّبة " ، والتفاني في عملهم إلى درجة يشهد بها القريب والبعيد ، والصغير والكبير .
لقد كانوا يحبّون مهنتهم حبّاً دفعهم إلى التفنّن في أساليبهم التربويّة ، بصورة استحوذت على قلوب طلاّبهم ، فلم يعد لها خيار عن حبّ العلم والاجتهاد في تحصيله ..
حبّاً كان عنوان إخلاصهم وتضحيتهم ، وتفانيهم في العطاء والبذل .. وكان عنوان استهانتهم بما يعترضهم من عقبات ، أمام أداء رسالتهم على أحسن وجه وأتّمه ..
كانوا يحبّون مهنتهم حبّاً جعل كلّ من يعرفهم يشفق عليهم لما يرى من بذلهم واجتهادهم ، ولو على حساب صحّتهم وراحتهم ..
حبّاً انعكس على شخصيّتهم صقلاً وتهذيباً ، فسما بهم عن سفساف الأمور ، وجعلهم أسوةً حسنةً لطلاّبهم ، ولآبَاء طلاّبهم ، ولكلّ من يحيط بهم ..
وأنّهم كانوا يحبّون طلاّبهم من قلوبهم ، وقد تجلّى ذلك في علاقتهم بطلاّبهم ، التي لم تَقِف عند المنهج المقرّر ، ولا المادّة العلميّة ، ولا ساعات الدراسة المعدودة .. وإنّما تجاوزت ذلك لتكون روحاً أبويّة فيّاضة بالحبّ والرحمة ، والنصح والإخلاص ، والحرص على النفع ودفع الضرّ .. فكان طلاّبهم يذكرونهم كما يذكرون آباءهم أو أشدّ ذكراً .. ويستشهدون بكلامهم ومواقفهم في كلّ مناسبة ، ويحنّون إلى لقيَاهم مهما تباعد العهد ، وتَشعّبَت بهم مَطالبُ الحياة .. ومنهم من تعلّق بهم أكثر من أبويه .. لأنّه وجد عندهم ما لم يجده عند أبويه ..
فهل تملك أيّها المعلّم الفاضل مثل هذا الحبّ .؟! وهل تجدُ علاقتك بطلاّبك على مثل هذه الصورة .؟! إنّ الحبّ كنز ثمين ، ليس من الهيّن على كلّ أحد أن يملكه .. وإنّه ليسير على من يسّره الله عليه .. إنّه يحتاج منك إلى تربية روحيّة ، تشرح الصدر ، وتنير الفكر ، وتجعلُ عملك التعليميّ عبادة تتقرّب بها إلى الله عزّ وجلّ ، قبل أن يكون عملاً معتاداً ، أو مهنةً هي باب من أبواب الرزق ، ويحتاج منك إلى طاقة نفسيّة ، تدفعك إلى العطاء بغير حدود ، وثقافة واسعة ، لا تقف عند الجزئيّات والفروع ، ولا اللحظة الحاضرة ، والمظاهر العارضة ، وإنّما تستشرف المستقبل ، وترمق الآفاق البعيدة ..
إنّك بحاجة إلى أن تعدّ نفسك بالحبّ كلّ آن ، وتستحضر حبّك قبل أن تخطو نحو طلاّبك ، وتشحذ به مهاراتك ، كما تعدّ دروسك ، وتنظّم دفتر تحضيرك ، وكما تخدم مادّتك العلميّة بما تقدر عليه من الوسائل ، وما يستجدّ من أساليب ..
إنّك بحاجة إلى أن تعكف على سيرة المعلّم الأوّل ، نبيّ الهدى والرحمة ، صلوات ربّي وسلامه عليه ، وتتعلّم منه كيف علّم أصحابه بالحبّ .؟ وكيف قدّم لهم الحبّ قبل أن يعلّمهم .؟ فأقبلوا على العلم بروح نهِمة وثّابة ، فتعلّموا دينهم ، وتفقّهوا فيه ، وأبدعوا في حمل العلم وتعليمه ، وبدّدوا بنور العلم ظلمات الجاهليّة حيثما حلّوا ..
إنّ المعلّم الناجح بحقّ هو المعلّم الذي يربّي بالحبّ ، ويرى التعليمَ أحبّ العمل إلى الله عز وجل ، وأحبَّ العمل إليه .. إنّه يحبّ طلاّبه كما يحبّ أولاده ، ويخلص في تعليمهم ، كما يخلص في عبادة ربّه .. فهل ندرك هذا السرّ ، ونعمل على إحيائه ، لتسمو رسالة التعليم إلى مصافّ عمل الأنبياء .؟ إنّا لنرجو ذلك ونتمنّاه ، والله وليّ التوفيق والسداد