أكد القرآن الكريم ومن خلال قصصه عن الأنبياء والصالحين على وجود نماذج كريمة نماذج انسانية يُقتدى بها ، وهو من قبيل الإبقاء على الخير وتأييده والاستمرار عليه ، ومن قبيل عدم القطع مع الماضي والاستفادة من المواقف والمناهج السابقة في الدعوة وبث العلم وإكمال كل ذلك بخاتمة الرسالات ولذلك ذمَّ القرآن من اتصف بالإنغلاق والتزمت تجاه الآخرين ورفض ما عندهم رفضاً كاملاً ، قال تعالى واصفاً حال اليهود والنصارى حين تنفي كل ملة ما عند الأخرى ولا تعترف بها : " وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء ، وهم يتلون الكتاب كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم ، فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون " ( البقرة / 113) وهذا الموقف هو من أمراض المجتمعات والأفراد عندما يُنتقص ما عند الآخرين ولا يُستفاد مما عندهم من العلم أو المعرفة .
إن التربية التي يريد القرآن من الأمة الإسلامية أن تنتهجها هي إكمال الهدى ، واستيعاب ما صلح من ماضي الإنسان واستيعاب ما صلح من حاضره أيضاً ، قال تعالى : " يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم ولله عليم حكيم " قال ابن عطية في تفسيره : " هدينا سننهم في أن أطعنا وسمعنا كما سمعوا وأطاعوا ، أو شرع لنا كما شرع لهم وإن اختلفت أحكامنا وأحكامهم والذين من قبلنا هم المؤمنون في كل شريعة "
ويقول الشيخ رشيد رضا : " يريد بما شرعه لكم من الأحكام المافقة لمصالحكم ، أن يهديكم سنن الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين ، أي طرقهم في العمل بمقتضى الفطرة
السليمة وهداية الدين . . . " (1) وقال تعالى : " وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ، ولكن تصديق الذي بين يديه . . . " ( يونس / 37 ) والذي بين يديه هي موافقة الكتب السماوية التي نزلت على الأنبياء قبل القرآن .
كان للعرب فبل الإسلام خصائص وأعراف أقر بعضها الإسلام ولم ينقضها أو يزيلها ، فقد عرف العرب في جاهليتهم ( القسامة ) ومعناها أنه إذا قُتِل قتيل في بلد ولم يُعرف قاتله ، يختار ولي القتيل خمسين من أهل هذا البلد ويقسمون بأنهم ما قتلوه ولا عرفوا له قاتلاً ، ثم يقضى بالدية على أهل المحلة جميعا ً ، فلما جاء الإسلام أبقى على هذا العرف أو هذا القانون ، ولم يحدث به تغييراً ، قال الإمام مسلم في صحيحه : ( أقر النبي صلى الله عليه وسلم القسامة على ما كانت عليه في الجاهلية ) وجاء في القرآن الكريم : " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله " ويعلق ابن جني على هذه الآية : " قد كان هذا أظهر شيء معهم ( العرب ) وأكثره في استعمالهم ، فكأن الشريعة إنما وردت فيما هذا حاله . . . " (2) ويقصد ما تعارف عليه العرب في إيواء المستجير بهم وحمايته .
وجاء الإسلام وقريش لها سدانة الكعبة والسقاية فأقرها الإسلام ، وثبت السدانة في بني شيبة ، فقد جاء في السيرة النبوية أنه صلى الله عليه وسلم بعد أن صلى في الكعبة بعد الفتح ثم خرج فدعا عثمان بن طلحة فأعطاه مفتاح الكعبة ، وكانت الحجابة في بني شيبه في الجاهلية فأبقاها بأيديهم ، وقد ألغى الرسول صلى الله عليه وسلم مآثر الجاهلية وثاراتها واستثنى سقاية الحاج وسدنة البيت فاستبقاهما (3)، بل ان من أسرار الشريعة البديعة ما ذكره ابن القيم قال : " إن الله لم يخلق شيئاً ولم يأمر بشيء ثم أبطله وأعدمه بالكلية ، لأنه إنما خلقه لحكمة له في خلقه وكذلك أمره لما فيه مصلحة ، فإذا عارض تلك المصلحة مصلحة أخرى أعظم منها ، كانت أولى بالأمر ، ويبقى في الأولى ما شاء من الوجه الذي يتضمن المصلحة ، فمن ذلك نسخ القبلة وبقاءبيت المقدس معظماً محترماً تشد إليه الرحال ، فلم يبطل تعظيمه واحترامه بالكلية ، وإن بطل خصوص استقباله بالصلوات ، ومن ذلك نسخ الصلوات الخمسين التي فرضها الله على رسوله ليلة الإسراء بخمس ، فإنها لم تبطل بالكلية ، بل أثبت خمسين في الثواب وخمساً في العمل والوجوب . . " (4).
وهذا الهدي القرآني ينطبق على الماضي كما ينطبق على الحاضر ، فالمسلمون لا ينغلقون عن الاستفادة من علوم الآخرين النافعة فالإطلاع على خبرات الآخرين يساعد على التعرف على مكامن الخير لتنميته والتعرف على عوامل الانحراف لمعرفة العلاج .
وقد استشهد شيخ الإسلام ابن تيمية لهذا المعنى بكلام عمر رضي الله عنه ( إنما ينقض الاسلام عروة عروة من نشأ في الاسلام ولم يعرف الجاهلية ) ولذلك أجاز الإطلاع على ما عند غير المسلمين من العلوم لينتفع بها أيضاً في طريقة مخاطبتهم .
فكيف بنا هذه الأيام ، وقد تفوق الغرب في كثير من الأمور ، لا نقول في التقنية العلمية البحتة ، ولكن في علوم الإدارة ، وعلوم المال وغير ذلك من العلوم المفيدة التي لا تخالف قواعد الاسلام وأسسه ، فإن من هدي الاسلام الاستفادة منها وعدم إنكارها لأنها من عند غير المسلمين .
ــــــــــــــــــــ
1ـ تفسير المنار 5/ 36
2ـ الخصائص 1/ 35
3ـ صحيح أبو داود 2/ 492
4ـ مفتاح دار السعادة / 385