أثرُ الابتعاثِ على فكرِ الشَّبابِ
15 صفر 1433
سعد العثمان

استيقظَ المسلمون من رقْدتهم، وبحثوا عن العلم الطَّبيعي، فوجدوا الغرب قد سبقوهم له، فهرعوا ليأخذوه عنهم، وجاءت رحلة الابتعاث المعاكسة، من أهل الإسلام إلى أهل الغرب، وبدأت رحلات الابتعاث أول ما بدأت عام 1813م، حتَّى نشطت في القرن الماضي في عدد من دول الإسلام، وأمَّا في المملكة العربيَّة السُّعوديَّة فكانت أول موافقة للمبتعثين في عام 1346هـ، وتتابعت البعثات، وعاد النَّتاج، ورجع الطُّلاب، وقد تباينت الثِّمار.

 

كان من الطُّلاب من ذهب ليحصِّل علم القوم، فرجع بفكر القوم لا بعلمهم، فلا هو حصَّل العلم، ولا بقي على أفكار مجتمعه، فصار بعضهم شوكةً في حلوق بلادهم، حين رجع متأثِّراً في أخلاقه، وأفكاره، وأطروحاته، وولائه، بل إنَّ كثيراً من الأحزاب السِّياسيَّة -سواء الاشتراكيَّة، أم العلمانيَّة أم اليساريَّة أم غيرها- ما عرفها المسلمون؛ إلا حين بدأت وفود المبتعثين الأوائل تعود، وللحقِّ فإنَّ عدداً من المبتعثين، جاء بعلم نفع به بلده، ومجتمعه، ورجع بعدما أعطى عن الإسلام صورة حسنة، وكان داعية إلى الله بأفعاله، وربَّما بأقواله، ورجع بفكره الإسلاميِّ، لم يتأثَّر بتغريب، ولم يُفتتن بفكرٍ كافرٍ غريب، وهؤلاء هم الوجه المشرق للابتعاث، وشتَّان ما بين الثَّمرتين.

 

منذ سنواتٍ يسيرة، تشهد المملكةُ العربيَّة السُّعوديَّة ثورةً في عالم الابتعاث، مختلفةً عن سابقاتها، في العدد، والعمر، وتعدُّد المجالات، فهي لجميع العلوم، ولشتَّى الدُّول، وكافَّة التَّخصُّصات، ولجُلِّ الرَّاغبين، حتَّى وصل عدد المبتعثين مئة ألف، أو يزيدون، ما بين شباب، وشابَّات، وما بين المتخرجين من المرحلة الثَّانويَّة، أو طلاب الدِّراسات العالية، وفي كلِّ عام يزدادُ العدد، ويُصاحُ بالرَّاغب، ويُفتح الباب للمتقدِّم، فأُنفقت في ذلك أموال طائلة، وارتحل إلى هناك أعداد ضخمة، ما بين ذكور وإناث، وهي أكبر حركة ابتعاث عرفتها الدُّول العربيَّة، وأرى أنَّنا حين نتحدث عن الابتعاث، فلا بُدَّ أن نشير لجملة من الأمور:

 

أولاً: كان قصد ولاة الأمر من الابتعاث، نقل العلوم لهذه البلاد، وذلك مقصد حسن، ومن العدل أن نقول؛ بأنَّ في الابتعاث بعض المصالح، كاكتساب العلوم والمعارف؛ التي لا توجد في بلادنا، وإيجاد الاكتفاء من أبناء البلد، لا سيَّما وبلاد الإسلام، ينبغي أن يكون لديها الهدف؛ لإيجاد تنمية شاملة، لجميع مجالات الحياة؛ لتقارع الدُّول المتقدمة ماديَّاً، وفي سبيل هذا الهدف، يكون الابتعاث أمراً فيه مصلحة، لو كان بضوابطه وقيوده المرعيَّة.

 

ثانياً: حين يكون هدف الابتعاث حسناً؛ فلا يسوِّغ ذلك لنا، أن نبتعث الأولاد من الجنسين بلا ضوابط ولا قيود؛ ذلك أنَّ المرء بالابتعاث، يسافر إلى بلاد تختلف عن مجتمعه، فما يحرم هنا يتيسر هناك، والبيئة والدين تختلف عمَّا عليه الوضع في بلده، لا سيَّما وهو سيسافر لبلاد كفر في غالب الأمر، ومن هنا فثمَّة ضوابط، ينبغي على الرَّاغب في الابتعاث تلمسها من نفسه، وعلى الجهة الرَّاعية للابتعاث أن تعتني بها، وأهم الضوابط والشروط ثلاثة:

1- أن يكون لدى المبتعث علمٌ شرعيٌّ، يحميه من الشُّبهات.

2- أن يكون لديه الدِّين؛ الذي يعصمه من الوقوع في الشَّهوات.

3- أن يكون البلد بحاجة لتخصُّصه، وما يريد تعلُّمَه. وحتَّى مع تحقُّق هذه الشُّروط؛ فالأصل أن يكون للذُّكور، وعلى تحفُّظ، وفي حدود ضيِّقة، لأنَّ الابتعاث للإناث أصعب، وتأثُّرهنَّ أسرع، وتبعات ابتعاثِهنَّ أكثر، وبقائها على حشمتها وحجابها متعذِّر.

 

ثالثاً: حال المبتعثين على ضربين:

الأوَّل: من راعى الضَّوابط السَّابقة، استفاد، وحفظ دينه، وإيمانه، واعتقاده.

 الثَّاني: من لم يراعِ الضَّوابط السَّابقة، اعترضتهم العوارض، واعتراهم القصور من جوانب، ماذا تتوقع من إرسال شبابٍ، بعد مرحلة الثَّانويَّة، في عنفوان الشَّباب، وزمن التَّفتُّح الفكريِّ والجسميِّ، وربَّما بعضهم عجِز أهلُه عن تحصينه، والسَّيطرة عليه في بلده، وهو بينهم، ثمَّ تراه يرسل إلى موئل الفتنة، وبلاد الكفر، بعيدًا عن الرَّقيب البشريِّ، وهو غير محصن بالضَّوابط المذكورة آنفاً، والأمر أخطر، حين تكون أنثى غير متزوجة، تبقى هناك مع زميلاتٍ تعرفت عليهنَّ، أو مع أخيها الذي يحتاج لقيِّم، أو محرمها الذي يعود لبلده سريعاً، نعم، إنَّنا أمام معضلة أطلت برأسها، والتَّبعة -وإن كان يشترك فيها الأسرة والمجتمع- إلا أنَّه يتحمَّلُها أولاً من فتح أبواب الابتعاث على مصراعيه، يلِجُ فيه كلُّ راغب، حتَّى ولو كان ممَّن أوصدت أمامه أبواب الجامعات، ويلتحق به كلُّ قاصد، ولو كان يريد به ركوب الموضة، والسَّفر للنُّزهة، والسِّياحة، ومواكبة الأقران.

 

وهنا أتساءل قائلاً:
هل المقصود من الابتعاث تحصيل العلم؟!. وإذا كان كذلك، فلماذا نبتعث لأيِّ تخصص وعلم، ولو كان له وجود في بلادنا؟. ولم لا يُجعل محصوراً على علومٍ محددةٍ لا توجد عندنا؟. وهل في جامعاتنا قصور، حتى نتجاوزها، ونُلجئ الشَّباب لأن يذهبوا هناك، ليأخذوا علوماً، هي في جامعاتنا أفضل وأقوى؟. وهل نعجز عن استقطاب أفضل الأساتذة، وتشييد أرقى الجامعات، بضوابط المسلمين، بجزء من ميزانيَّات الابتعاث؟!.
 أسئلة مطروحة...تنتظر الإجابة.

 

رابعاً: الابتعاثُ بوضعه الحالي، مفاسده تطغى على مصالحه؛ فثمةَ آثارٌ أخلاقيَّة ناتجة عنه؛ كتيسر الخمور والمخدرات، ووقوع جملة من شبابنا في شراكها، وتيسير أبواب الفواحش، الملاهي، والمراقص، ووسائل الإفساد، وما ظنُّك بجيلٍ، نشأ على الطُّهر، والحشمة، والحياء، فتح عينيه؛ وإذا كلُّ هذا أمامه، بلا رقيب بشريٍّ، ولا رادع نظاميٍّ.

 

والآثار أكثر من هذا؛ فهل انقدحت شرارة حركات التَّغريب، والدَّعوة لتحرير المرأة، في بلاد المسلمين؛ إلا في بلاد الابتعاث؟!. حيث قاسم أمين، والطَّهطاوي، وطه حسين، وغيرهم. كلُّهم جاؤوا بها، بعد ابتعاثهم لفرنسا، ورجوعهم منها مفتونين بالغرب، دعاةً للتغريب في مصر وغيرها، بل، وقلِّب ناظريك في دعاة التَّغريب في مجتمعنا؛ تجد أن جلَّهم من بقايا المبتعثين الأوائل.

 

كلُّ هذه الآثار وغيرها، ليست بأخطر من الأثر العقديِّ؛ حيث يضعف الولاء والبراء في نفس المخالط لهم صباح مساء، وربَّما تأثَّر المرء ببعض الشُّبهات العقديَّة المطروحة، والمفاهيم الفكريَّة الباطلة، وتأثَّر بالكفار وتشبَّه بهم، وأخطر من كلِّ هذا، أنَّه ربَّما ترك دينه، ولحق بدين القوم، وهذه قاصمة الظَّهر، وإن كان جملة من المبتعثين قد سلم منها، وهو الأصل، بل بعضهم زاد تمسُّكه بدينه حين ذهب، كلُّ هذا وُجِد، وليس الحديث عن الآثار، يعني أنَّ كلَّ مبتعث واقع فيها، ولكن!! وقوع بعض شبابنا فيها، هو نذير خطر بالغ، إن لم يُتدارك.

 

خامساً: حين يكون الابتعاث واقعاً مفروضاً، فكيف نرشِّدُه، ونخرجُ منه بالثَّمرة، وبأيسر الخسائر؟؟.
فأول ذلك: ألا يكون الابتعاث للمتخرجين من الثَّانويَّة؛ بل لمن تقدَّمت أعمارهم، ونضج فكرهم، ويؤكَّد على كونه متزوِّجاً ليحصِّنَه ذلك، وتقليل العدد، في سبيل اختيار النَّوعيَّة، وجعله في التَّخصُّصات التي تحتاجها البلاد، كلُّ هذا، مع الحرص الأكيد، على تحصين الذَّاهب عقديَّاً، وشرعيَّاً، وتربويَّاً، وأخلاقيَّاً، ليعود مثمراً نافعاً، بقي له دينه، ورجع بعلم ينفع فيه أمَّته، مع إيجاد اللِّجان التي تتابع المبتعث، وتتلمَّس حاجته الدِّينيَّة، وتكثيف الدَّورات الشَّرعيَّة، قبل الذَّهاب وبعده. وأنت أيُّها المبتعث، فاحرص على أن تتحصَّن قبل ذهابك، بالعلم الشَّرعيِّ والإيمان، وليكن هدفُك نفع الأمَّة، لا نفع نفسك فحسب، وكن خير سفيرٍ للإسلام، وتحلَّ بأخلاقه العِظام، وأنت أدرى بنفسك، فإن خفت زيغاً وتأثُّراً في دين، أو فكر، أو معتقد، فدينك ونفسك أولى، فالزم بلدك، ولتسعْك ديارك، ومن ترك شيئًا لله، عوَّضه الله خيراً منه.

 

أختم مقالتي بقولين من أقوال أهل العلم والمعرفة:

- قال الشيخ محمد بن إبراهيم -رحمه الله- مفتي الدِّيار السُّعودية في زمانه، متحدِّثاً عن الابتعاث في الثَّمانينيَّات:( والذي أراه يتعيَّن، ولا يسوغ العدول عنه، هو منع البعثات إلى الخارج بتاتاً، سدَّاً لباب الرِّدة، والنَّشء الكفريِّ، وقطعاً لمادة الفتنة، وتمييزًا وتفريقاً بين الحقِّ والباطل).

 

- قال الشيخ ابن باز -رحمه الله-:( من أساليب الغزو الفكريِّ: ابتعاث أبناء المسلمين، إلى الجامعات الأوربيَّة والأمريكيَّة وغيرها، وبعد إكمال دراستهم، وعودتهم إلى بلادهم، وتسلُّمهم المناصب الكبيرة في الدَّولة، هم أخطر ما يطمئنُّ إليه المستعمر بعد رحيله، ويضع الأمانة الخسيسة في أيديهم، ينفذونها بكلِّ دقَّة، بل بوسائل أشدُّ عنفاً وقسوة، من تلك التي سلكها المستعمر).