النفس البشرية تلك التركيبة الفريدة التي أبدعتها يد الخالق – سبحانه وتعالى -، فيها من الأسرار والمتناقضات ما يعجز عن استيعابها العقل البشري البسيط.
فرغم إيمانها بالمولى – عز وجل – أيما إيمان، وإيمانها بالغيبيات التي جاءت في صحيح التنزيل، إلا أن النفس البشرية المؤمنة لا تزال ترنو إلى رؤية شيء مجرد، تراه بالعين، لا لكي تؤمن أو يتأكد إيمانها، ولكن لترنو إليه أشواقها، وتقضي به حنينها، ويبرز من خلاله رغبتها الملحة في التعظيم والدنو إلى الله – عز وجل -.
لذا فقد اختار الله – عز وجل – أشياء أضفى عليها رحمته وعظمته ونسبت إليه ، وإذا رُئيت ذُكر الله، يقول الشيخ أحمد الدهلوي في كتابه "حجة الله البالغة" ( ربما يشتاق الإنسان إلى ربه أشد شوقًا، فيحتاج إلى شيء يقضي به شوقه، فلا يجده إلا في الحج ).
نعم فالحج رحلة، لا تحمل في ركابها سوى المحبين الذين رضي بهم سبحانه وتعالى ضيوف له فأرضاهم بزيارة بيته العتيق.
وفي الحج أراد الله أن يؤكد لعباده أن الصلة بينه وبينهم مباشرة لا وسيط فيه ولا قريب ولا بعيد سوى بعمله، وكذلك هي صلة حب وعاطفة، قال تعالى ( وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ .. ) الآية 165 : البقرة، ليست مجرد صلة عقلية بحتة، يقوم فيها الإنسان بواجبات ويدفع الزكاة، ويخضع ويطيع أوامره سبحانه وفقط، وإلا فكيف لدين أن يكون بلا عاطفة تسمو بالروح والنفس من قيود المادة الطاغية على عصور هذه الأيام.
ومن غير تلك العاطفة الجياشة لم نكن لنجد قلوبا يملأها الشوق تئن خشوعًا لله في صلاتها، أو عيونا تملأ دموعًا رغبة في رضا خالقها، أو نفوسا تزهق تفانيًا في جهاد هو كره على النفس.
والنفس البشرية كالكأس تحتاج أن تمتلئ بل وتفيض بما فيها من محبة ورحمة، لذا فلا يكفي لها أن تصوم عدة ساعات في رمضان، أو أن تقوم بين يدي خالقها لدقائق أو سويعات هي نعم ( غالية )؛ ولكنها لا تكفي لتروي ظمأ تلك النفس التواقة، ولا يمكن لهذه الكأس أن تمتلئ وتفيض إلا أّذا حدث انقطاع لها عن علائق الحياة وعن باقي الخلائق كلها، وأين ستجد تلك المحبة الفياضة والشوق والانقطاع إلا في رحلة هي لله خالصة، يقر الله فيها عين عباده بما طاب من الرحمات والبركات.
وكذلك كان للمسلم أن يثور على اتزانه العقلي الرصين الذي يتسم به في حياته، وأن يحطم قيود عقله وينتزع الزمام من يد عقله ويهديه لقلبه، فإذا كان النفي رائد العقل .. كان الإثبات رائد القلب ودليله. فلا توحيد لمن أسرته العادات والشهوات عن العبودية والتأله ، ولا يعتبر منقادًا مستسلمًا لله من اعتمد على عقله دائمًا، فلا يمتثل لأمر إلا إذا وزنه بميزان العقل، يقول الإمام الغزالي – رحمه الله –: ( ووضعه – أي البيت – على مثال حضرة الملوك يقصده الزوار من كل فج عميق، ومن كل أوب سحيق، شعثًا غبرًا، متواضعين لرب العالمين، مستكنين له خضوعًا، مع الاعتراف بتنزيهه على أن يحتويه بيت أو يكتنفه بلد .. )، فالإنسان في الحج يترك حياته وعاداته ويصير عبدًا منقادًا لشعائر قد لا يستسيغها عقله ولا يرضاها، ولكنه يقر بها تصديقًا وإيمانًا، ويقوم بها امتثالاً وخضوعًا.
فالحاج يتقلب بين مكة ومنى، وعرفات والمزدلفة، ثم منى ومكة، يقيم ويرحل، يمكث وينتقل، يخيم ويقلع، ليس له اختيار ولا حرية، فينزل بمنى ولا يلبث أن يؤمر بالانتقال إلى عرفات من غير أن يقف بالمزدلفة ويقف بعرفات ويظل سحابة النهار مشتغلاً بالدعاء والعبادة، وتحدثه نفسه بالمكث بعد الغروب ليستجم ويستريح فلا يُسمح له بذلك، ويؤمر بالانتقال إلى المزدلفة، ويؤمر بترك صلاة المغرب في عرفة لأنه عبد لربه، وليس عبدًا لصلاته، فلا يصليها إلا بالمزدلفة، وتطيب له الإقامة في المزدلفة فيريد أن يطيلها، فلا يسمح له بذلك ويؤمر بالانتقال إلى منى.(1)
أنها رحلة شوق وكد، رحلة حب وشعائر، يغلفها رضا رباني يرجع به المسافر إلى أهله قد رضي ربه عنه، وهو راضيًا عن ربه بما أراه من آيات وحكم تعجز العقول والأفهام عن وصفها أو حتى مجرد استيعابها سوى بقوله تعالى ( ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ) آية 32 : الحج
------------------------------------