لا يشك عاقل في حب كل أم وأب لأبنائهم , بل ولا في رغبتهم للخير لأبنائهم , كي يعيش أبناؤهم حياة مستقرة وسعيدة وهادئة وخاصة مع بدايات انتقال الأبناء لطور حياتي جديد عندما يبلغون مرحلة الزواج وبناء كيانات اجتماعية جديدة تضاف إلى لبنات المجتمع .
ولكن الجملة الشهيرة التي نقلت عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه " كم من مريد للخير لا يبلغه " تصدق في حال بعض الآباء والأمهات الذين يتصورون أنهم حينما يربطون أبناءهم بهم – بعد استقلالهم وزواجهم – رباطا وثيقا شديدا يحكمون فيه السيطرة عليهم وعلى تصرفاتهم فلا يتحركون خطوة إلا بموافقتهم , فينتج عن ذلك أن يقدم كل من الزوجين الجدد رأي أهله – مهما كان – في كل القضايا الكبيرة منها والصغيرة على رأي زوجه الذي يعيش معه وكأنه لا يزال داخل شرنقة ضخمة لا يريد أن يخرج منها ولا يسمح له أيضا بالخروج والفكاك .
ويتصور هؤلاء الآباء والأمهات - تصورا بعيدا عن الصواب - أنهم يقدمون نفعا لأبنائهم وبناتهم , وأنهم يحافظون على أسرهم الجديدة , ولكنهم يساهمون حقيقة في تقويضها وهدمها لعدم سماحهم لشخصيات الأبناء الزوجية بالظهور والنمو والتفاعل وتحمل المسئولية الزواجية تدريجا فيتوقف عطاء الأبناء ويتوقفون عن التطور الطبيعي الإنساني الذي يستوجب أن يمر الإنسان بالمشكلات والأخطاء لكي تصقل شخصيته وتترقى , وخلاف ذلك يجعلهم نماذج زوجية مشوهة غير جديرة بتحمل مسئوليتها وربما يؤدي ذلك التصرف إلى تهديد الكيانات الجديدة تهديدا فعليا ويصل في كثير من الأحيان إلى هدمها بالكلية وتكون المسئولية هنا عن ذلك الخلل هي مسئولية الأسرة الكبيرة التي لم تسمح بنمو أسر صغيرة من خلالها .
تنجح معظم الأسر في الفطام الأول لأبنائهم - وهم أطفال - فينفصل الطفل بدنيا عن الالتصاق بالأم من ناحية الغذاء , بينما لا تنجح فئة غير قليلة من الأسر في هذا الفطام الثاني , وربما يقاوم بعض الآباء والأمهات هذا الفطام لأبنائهم عند زواجهم واستقلالهم معتبرين أن هذا الفطام سيفقدهم تلك العلاقة المحببة بينهم وبين أبنائهم وسوف يستغني عنهم أبناؤهم تدريجيا حتى يصلوا للاستغناء الكامل مكتفين بأسرهم الوليدة الجديدة .
وسواء أكان هذا الولد زوجا أو زوجة يظل الأمر يشكل مشكلة ضخمة ومعضلة يجب وضع حل لها , وبداية الحل عند الوالدين الذين يجب أن يتفهموا أن عجلة الزمان تدور ولا تتوقف وأن طفل اليوم سيصبح غدا رجلا أو امرأة زوجا أو زوجة ولن يظل طفلا للأبد وأن مرور الزمن يجعل من الطفل إنسانا كبيرا يتحمل مسئوليته ويتخذ قراره المستقل , ويجب على الآباء والأمهات مساعدة أبنائهم على ذلك .
وفي الحالتين ضرر بالغ , ففي حالة الزوج الملتصق بأسرته الأم تجد زوجته أنها تعيش في ظل قيود لا تستطيع التخلص منها ولا حتى مناقشتها وربما ترى في زوجها ضعفا في شخصيته إذ تراه منقادا انقيادا كاملا لأوامر خارجية ولا يستطيع اتخاذ أي قرار في أي شأن كبير أو صغير إلا بالعودة إلى أبيه أو أمه , مما يقلل من شأنه أمامها , وربما يثور الزوج ويغضب كثيرا جدا إذا ضغطت الزوجة عليه – عامدة أو جاهلة - لتنفيذ أي قرار خاص بالأسرة والزوج لا يستطيع تنفيذ ذلك لعدم قوته أو لضعف حجته في مواجهة والديه , فربما تتهدد العلاقة بينهما وأيضا ربما يكون من نتائجها السلبية الخطيرة وقوع مشكلات عديدة بينهما تحيل حياتهما لحياة بائسة عليهما معا وتجعلهما يفكران مليا في الانفصال وخاصة في بدايات زواجهما .
وفي حالة الزوجة التي لم تتخلص من تبعيتها الشاملة في الأفكار والرؤى والقرارات لبيت أبيها , يشعر الزوج أنه يفتقد للقوامة عليها لأنه لا يستطيع أن يتخذ قرارا في أي شأن يحتاج لاتفاق بين الزوجين إلا بعد أن تعتمد الزوجة هذا القرار من أمها أو أبيها , ويراها تُدخل في أخص خصوصياتهما أهلها الذين يتدخلون لمنفعة الأسرة في بادئ الأمر إلى أن ينتهي بتحكم كامل في مجريات شئون تلك الأسرة , وربما يروق للزوج هذه التصرفات في البداية حيث تغمره أسرتها بوافر من الرعاية وتلبية ما قد يعجز عنه – إن كانوا يمتلكون قدرات مادية – ولكنه كأي رجل سرعان ما سيضيق ذرعا بهذا الخلل وسيحاول إيقافه إن استطاع وسيلقى مقاومة شديدة من زوجته وأسرتها وقد يصل الأمر إلى طريق مسدود يستحيل دوام المعاشرة وقد يحدث ما لا يحمد عقباه .
إن مسئولية هذا الخلل تقع أولا على عاتق الآباء والأمهات فهم المسئولون عن تربية أبنائهم وإعدادهم لتحمل مسئولية الزواج وهم الأقدر على تجنب هذا الموقف الذي ينتج عن كثرة الحب والتعلق بالأبناء والاستئثار بهم والخوف من فقدهم إذا تزوجوا .
ولاشك أن هذا الخلل نتيجة أنانية كبيرة من الأبوين وعدم قدرتهما على التكيف الاجتماعي مع الأوضاع الجديدة , ولهذا ينبغي عليهم عدة تصرفات قبل وقوع المشكلة وأثنائها لمحاولة الفكاك من هذه الحالة المرضية ومنها :
- يجب أن يتفهم الأبوان أن لكل مرحلة حياتية من مراحل نمو أبنائهم احتياجاتها المختلفة تماما عن احتياجات المراحل الأخرى , فاحتياج الطفل الذي لا يستطيع الاعتماد على نفسه مطلقا يختلف عن احتياجات الصبي والمراهق واليافع والبالغ
- يكون احتياج الطفل في البداية احتياجا ماديا أكبر منه نفسيا في تلك المراحل الأولى ثم يبدأ الابن تدريجيا في التخلي عن الاحتياج المادي ويبدأ في ازدياد الاحتياج النفسي لديه , وأن مهمة الأبوين في تلك المراحل هي دعم الابن للاعتماد على نفسه بحسب ما تقتضيه كل مرحلة حتى يصل إلى الاستغناء المادي عنهم تماما وذلك مع نمو العطاء النفسي من الأبوين لدعمه وتثبيت أفعاله الحسنة ومحاولة إعادته إلى جادة الصواب إن أخطأ
- دائما وأبدا ما تتوقف لحظة الفطام على المعطي لا على الآخذ , ودائما من يأخذ زمام المبادرة هما الأبوان وليس الأبناء , فالأبناء لا يطلبون الفطام بل يستمرئونه ولا يشعرون بحاجتهم لأن يخرجوا من الكنف المريح الباسط يديه ليلا ونهارا ليتحمل كل مشكلة ويساهم في علاجها , ولهذا يجب على الأبوين أن يبادرا بتخليص أبنائهم من شرنقتهم وأن يساعداهم على اجتياز تلك المراحل الصعبة بفتح الباب لهم وتعوديهم على الاستقلالية وتحمل أخطائهم وتصويبها بعد حدوثها لكي يعتاد كل منهم على القرار وعلى تحمل مسئوليته
- ينبغي ألا يشهر الأبوان سلاح البر والترهيب من العقوق إن أحب الزوج أو الزوجة أن يستقل قرارهما في داخل حيز أسرتهما الصغيرة , بل يجب أن يشعرا أنهما أصحاب قرار ومتحملو مسئولية أطفال عما قريب ويجب أن يعلما أن هذه النزعة ليست من العقوق في شيئ بل هي مطلب بشري فطري
- يجب أن يعلم الأبوان حين يعدان أبناءهما لمواجهة الحياة أنهما قد أديا معظم رسالتهما , وربما يسبق القدر- فلكل أجل كتاب - فلا يتركا أبناءهما في دوامة الحياة لم يستعدوا لها بل يتركانهم وهم أقوياء قادرون على تحمل مسئولية طالما اعتادوها في حياة آبائهم وتعلموا من خبراتهم واستفادوا من تجاربهم فيكون رصيد الخبرة والتجربة للآباء زيادة لرصيد الأبناء .
- يجب أن لا يترك الآباء أمر الفطام للزمن فمن اعتاد الأخذ بسهولة ويسر لن يحب أبدا أن يتعرض لمصاعب ومتاعب , فمرض الاستسهال والاتكال موجود في النفس البشرية التي تحب دوما الدعة والكسل والركون للجانب المريح , ويجب أن يعلم الأبناء أن نمو شخصيتهم واكتمالها مرهون بخوض المشكلات والولوج في أتون العقبات والمشكلات , فالذهب لا يتخلص من شوائبه إلا بصهره في درجات حرارة عالية , فاقتحام المشكلات والملمات هو سبيل إنضاج الأبناء ليكونوا دعامة جديدة صلبة وقوية لرفعة دينهم ولنهضة بلادهم وتحقيق غاياتهم