قد مرت أيام وهي في ناظري وكأنها الأمس وذكراها الجميلة تجعلها طيفا يمر بألوانه الرائعة بين الحين والآخر .
ففيها كان يجتمع إخواني وأخواتي , والوالدان الحبيبان ,الكل يجلس حول مائدة الطعام .
إنها ساعة فقط في كل يوم لكننا كنا قد ارتبطنا بها أشد ارتباط , إذ نتبادل الحديث النافع معا وفيها كان يتفقد والدي أحوالنا والغائب منا , الكل يبتسم ويتلطف في الكلام مع الآخرين , ملتزمين بآداب الطعام التي علمها لنا ابي منذ الصغر كما كانت سنة النبي صلى الله عليه وسلم , فهي ساعة سعادة فليس فيها خبر سيء يذاع ولا صوت غير صوت السعادة .
أحببنا تلك الساعة وانتظرناها , ونقشت في قلوبنا وافتقدناها.... فكنا نجتمع علي الطعام بحب خالص يسيرا كان أو كثيرا فاخرا كان أو متقشفا , فنجد فيه حلاوة عجيبة .
وإذا دخل علينا ضيف في لحظتها زادت حلاوة الطعام , ووجد الترحيب والإكرام كأكثر ما يكون ..
لقد أخبرنا الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في حديثه أن البركة في الطعام إنما هي بالاجتماع عليه فقد روي أَنَّ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالُوا: "يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّا نَأْكُلُ وَلَا نَشْبَعُ" قَالَ: "فَلَعَلَّكُمْ تَفْتَرِقُونَ؟" قَالُوا: "نَعَمْ" قَالَ: "فَاجْتَمِعُوا عَلَى طَعَامِكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ يُبَارَكْ لَكُمْ فِيهِ " أخرجه أحمد وابو داود وابن ماجه وحسنه الألباني , وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم " طَعَامُ الِاثْنَيْنِ كَافِي الثَّلَاثَةِ وَطَعَامُ الثَّلَاثَةِ كَافِي الْأَرْبَعَةِ" صحيح البخاري
وقال علي رضي الله عنه: لأن أجمع إخواني على صاع من طعام أحب إلي من أن أعتق رقبة. وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: من كرم المرء طيب زاده في سفره وبذله لأصحابه وكان الصحابة رضي الله عنهم يقولون: الاجتماع على الطعام من مكارم الأخلاق.
قَالَ اِبْن بَطَّالٍ :الِاجْتِمَاع عَلَى الطَّعَام مِنْ أَسْبَاب الْبَرَكَة , وقال السندي في شرح سنن ابن ماجه: فَبِالِاجْتِمَاعِ تَنْزِل الْبَرَكَات فِي الْأَقْوَات وَبِذِكْرِ اِسْم اللَّه تَعَالَى يَمْتَنِع الشَّيْطَان عَنْ الْوُصُول إِلَى الطَّعَام.
وقال ابن المنذر : يستحب الاجتماع على الطعام وألا يأكل المرء وحده؛ فإن البركة فى ذلك .
وقال في فيض القدير : وفي الأكل مع الجماعة فوائد منها ائتلاف القلوب وكثرة الرزق والمدد وامتثال أمر الشارع لأنه تعالى أمرنا بإقامة الدين وعدم التفرق فيه ولا يستقيم ذلك إلا بائتلاف القلوب ولا تألف إلا بالاجتماع على الطعام وشر الناس من أكل وحده ومنع رفده كما مر في حديث فمن فعل ذلك وأراد من الناس نصرته على إقامة الدين فقد أتى البيوت من غير أبوابها وربما خذلوه عنادا لبغضهم له إذ البخيل مبغوض ولو كثر تعبده .
ونحن اليوم نجد أنه قد أصبح من الصعب جدا تجميع أعضاء الأسرة في آن واحد , في ساعة من نهار , فالكل مشغول في شأنه , وقد تصبح مهمة صعبة لدى معظم الأسر .
أصبحت الأمهات تقدم الطعام المفرد لأفراد العائلة كلما قدم أحد منهم , فصار الغذاء أشبه بالتزود بالوقود وأصبح البيت كأنه مطعم أو فندق !
والطعام السريع من أخطاء النظام العائلي , ولاشك أننا نلاحظ المجتمعات الغربية التي عادةً ما تعودت على الوجبات السريعة الخارجية وعدم الاجتماع على موائد الطعام متفككة لا ارتباط روحي بين أفرادها لهذا السبب وغيره من الأسباب .
وإذا زاد انشغال الأبوين فلست أدرى أين الوقت للآباء إذا أرادوا الحوار مع أبنائهم , وأين وقت الالتقاء معهم, خصوصا وقد أفرز العصر من وسائل التكنولوجيا ما يزيد في بعد أفراد الأسرة وتفرقهم عن بعضهم , فالجلوس الصامت أمام التليفزيون لمشاهدة برنامج ما يزيد في الفرقة حيث الصمت يخيم وكل أحد يبقى في عالمه , ثم الحديث عبر الجوالات يتدرج ليقوم مقام الحوار الأبوي , والإنترنت يعمق الفردية ويوسع الهوة بين أفراد العائلة , لتصبح عائلاتنا شخصيات متفردة بعيدة عن بعضها داخليا وخارجيا .
لقد بنيت بين بعض الآباء وبين أسرهم جدر وحواجز , فصار الولد لا يذكر أباه إلا إذا كان يريد منه مالا أو خدمة !
كما نجد افتقاد الصحبة بين أفراد الأسرة , وإخفاء كثير من الأمور التي ينبغي فيها للولد أن يتحدث مع كبير ليأخذ من خبرته وتجربته , حتى المصارحة بين الآباء والأولاد قد اغتربت وهي لن تعود إلا بالمعايشة و بالحب المتبادل
إن الاهتمام بصور المعايشة الإيجابية لكفيل بعودة الدفء بين جنبات البيوت , فتقبيل الآباء للأبناء من وقت لآخر واحتضانهم , والاهتمام بالعلاقات الداخلية بين الأب والأم في صورة حب متبادل بينهما من أفضل ما يفعله الأب ويقدمه لأولاده , فمن الحب ينشأ الاحترام في التعامل المتبادل والتقدير المتبادل
كذلك مما يزيد الوصال بين الآباء والأبناء اختيار واحدة من ليال الأسبوع حيث يفرغ الأفراد وقتا من يومهم ذلك فتكون ليلة عائلية , فيها يتبادلون الحديث والألعاب المناسبة لعمر كل منهم , وعندما ننجح في تحقيق سعادة نفسية في ذلك الوقت لأولادنا وأنفسنا فإن الاتصال والتواصل سيكون ثمرة هذا اللقاء .