[email protected]
تكتسب بعض الأشياء معان محورية ذات خصوصية في التجربة الإنسانية، مما يجعل بعض الشعوب تتخير مفردات بذاتها لتعبر بها عن قيم مجتمعية تعتز بها أو تسعى من أجلها.. وهذا أمر مشاهد في مختلف الحضارات.
ومن ذلك دلالة "الدلة" على كرم الضيافة أو السيف على العزة والمنعة لدى العرب، أو الخيل على القوة والإقدام، أو جعل الميزان رمزا للعدالة، أوالنخلة رمزا للشموخ، واستعارة القضبان للظلم ، والقيد للقهر.. وجعل السنبلة رمز النماء والعطاء..
بعض هذه الرموز تتولد نتيجة مواقف تاريخية، أو ربما لاقتباس حضور وجداني مشترك، أو لإبرازها ضمن إبداع ذاع صيته فجعل للرمز قيمة محملة بمئات المضامين ضمن قصص وروايات وحكم وأمثال ومواقف وقيم، حين يثيرها الخيال فيثريها..
فكثيرا ما نستعير قميص عثمان أوشعرة معاوية في بناء دلالي معين، أو استدعاء عشرات المضامين الراسخة والمرتبطة بذلك الرمز لتؤكد على موقف بعينه، أو تحيي شعورا جمعيا في قضية ما، بالإضافة إلى جعل هذه الرمزيات ذات قيمة فيما تتناقله الأجيال.
ورغم ما تتمتع به الأمة المسلمة من رصيد ضخم من مثل هذه المعاني، التي تجعل مختلف التجارب البشرية من حولها في غاية الفقر لما تراه من ثراء إيماني واجتماعي وثقافي .. إلا أننا مازلنا بحاجة إلى إبراز عشرات من هذه الرمزيات أور بما مئات، لكي نرسخ كثيرا من القيم الإيمانية والحضارية التي نقلها لنا تاريخ أمتنا، عبر أدوات يمكن أن تسهل كثيرا من المهام التربوية للأجيال التي وجدت نفسها في فراغ العولمة تعاني التيه الحضاري والفقر الوجداني، حتى تتشبث بأصل يعصمها من هذا الطوفان.. ومعروف ما للرمز من دلالة اتصالية..
هذه الرمزية ليست بمستحدثة في ديننا بل هناك أمثال القرآن بما تحمله من نماذج في غاية الجمال والقوة، كما في مثل النور في آية النور من سورة النور، وما تحمله من إشراقات على القلب والروح ، أما السنة فمليئة مليئة بنماذج تثرينا بما نريد أن ننتهجه في هذا المجال، ومن ذلك جعل النخلة مثلا للمؤمن، وقلبه "الأجرد فِيهِ مِثْلُ السِّرَاجِ يُزْهِرُ" "وسِرَاجُهُ فِيهِ نُورُهُ"، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه:قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: قل: اللهم اهدني وسددني واذكر بالهدى هدايتك الطريق والسداد سداد السهم "يا علي سل الله الهدى والسداد واذكر بالهدي هدايتك الطريق، وبالسداد تسديدك الرمي".
ويتجلى هذا أكثر حين تمر ببعض الشعوب أزمات مصيرية نجدها تتخذ من بعض الرموز "معاني جمعية" لرفع الروح المعنوية لدى أبنائها، أو لإبراز الاعتزاز بقيم تشجع على الوحدة والتحدي والبقاء، أو للحفاظ على أخرى يخشى عليها من الاندثار جراء الهزيمة النفسية وحالة الوهن التي تعتري أبناءها..
ومن هذه الرمزيات رمزية المصباح في الإسلام نصا وتاريخا، إيمانا وحضارة.. كيف لا وقد ضرب الله مثل نوره في كتابه في الآية الكريمة : (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [سورة النور: ]
فإذا جال أحدنا بخاطره في شوراع الأندلس وقد ازدان ليلها بانتشار المصابيح بينما كان على مقربة منها مدن أوربا في ظلماتها مستوحشة.. وقد ذكروا أن شوارع الربض في شرقيّ قرطبة كانت مُنارة في الليل بالمصابيح التي بلغ من كثرتها أن جلست النسوة يكتبن المصاحف بالخط الكوفي... وتمتد الأسرجة يستضيء بها الناس ثلاثة فراسخ وكان أصحاب المراكب يلزمون بإضاءتها ليلاً.
بل إن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أسرج في حياته حين أوقف عليه سرجه ليلا الصحابي الجليل تميم بن أوس الداري في السنة التاسعة من الهجرة فحفظ له الإسلام هذا السبق.. هذا عن إضاءته فماذا عن انطفائه؟
وينقل لنا المصباح عددا من قيم الحكم حين يحكي لنا العالم الرباني رجاء بن حيوة مستشار الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز رحمه الله في مسامرة لهما ذات ليلة فانطفأ السراج وإلى جانبه خادمه نائم فقام عمر إلى السراج ليشعله من جديد رافضا إيقاظ الخادم أو استخدام الضيف لأنه ليس من المروءة.. ثم قال قولته المشهورة: قمت وأنا عمر ورجعت وأنا عمر، هذه لم تكن مأثرة لخليفة واحد بل فعلها غيره، ومما ذكره التاريخ موقف المأمون في حضرة أبي الصلت عبدالسلام بن صالح حين بات عندالمأمون ليلة فنام القيِّم الذى كان يُصلح السراج فقام المأمون وأصلحه..
هذا بعض ما يحمله ذكر المصباح من معاني النبل والتواضع، وخدمة الضيف ورحمة الأجير وأمثال ذلك.
أما عن الورع ودقة مراقبة العبد لله عز وجل؛ فيروي لنا عبد الله بن المبارك في كتابه "الزهد والرقائق": أن امرأة جاءت تسأل الإمام أحمد فقالت له: يا إمام إنني أغزل على ضوء السراج .. وربما انطفأ السراج فأغزل على ضوء القمر!! أيجب علي يا إمام عند بيع غزلي أن أفرق للبائع ما غزلته تحت ضوء السراج مما غزلته تحت ضوء القمر؟! فقال لها الإمام أحمد متعجباً: من أنتِ يا أمة الله؟! من أنتِ عافاك الله؟! فذكرت أنها أخت لـبشر الحافي فبكى الإمام أحمد رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وقال: من بيتكم يخرج الورع الصادق؟
ذات مرة أعلن في مدينتي عن انقطاع للكهرباء لليلة واحدة فرأيت الناس يسارعون إلى المتاجر لشراء الشموع وبدائل الإضاءة، فسبحان من ذكرني موقف ذلك العالم المبارك عبد الله بن المبارك وهو يجسد لنا رمزية أخرى لانطفاء السراج بموقف تربوي عملي إيماني، مازال له أثره على النفوس إلى اليوم:
يقول القاسم بن محمد :كنا نسافر مع ابن المبارك فكثيراً ما كان يخطر ببالي، فأقول في نفسي: بأي شيء فُضُل هذا الرجل علينا حتى اشتهر في الناس هذه الشهرة؟!
إن كان ليصلي إنا لنصلي، ولئن كان يصوم إنا لنصوم، وإن كان يغزو إنا لنغزو، وإن كان يحج إنا لنحج.
قال: فكنا في بعض مسيرنا في طريق الشام ليلة نتعشى في بيت إذ انطفأ علينا السراج، فقام بعضنا لإصلاح السراج، فكانت هُنيهة - أي: لحظة من اللحظات - ثم جاء السراج، فنظرت إلى وجهه رحمه الله تعالى وقد ابتلت لحيته من كثرة الدموع،فقلت في نفسي: بهذه الخشية فُضِّل هذا الرجل علينا، ولعله عندما فقد السراج وصار إلى الظلمة ذكر القيامة فتأثر.
رأى الظلمة ففر إلى الله ورأينا الظلمة فهرعنا إلى المتاجر..
أرأينا كيف أضاء لنا المصباح - حال توقده وحال وهدته - معاني ذات دلالة لها أثرها القوي في حس المؤمن.. إن استصحاب مثل هذه المعاني تجعل المؤمن أكثر حنينا لمعاني الإيمان وقيم الحضارة وأكثر تعلقا واعتزازا بها، وتعبيرا عنها ،فتفجر في نفسه معاني العطاء والعمل، وترده في لحظات ضعف كثيرة إلى ثقة وعزة وقوة وعطاء .. وما أحوجنا إلى أن نبحث عن مثل هذه الرمزيات فنبرز حولها الدلالات التربوية في حياتنا.. وفي إعلامنا.. وتعليمنا..
هذه بعض المعاني الإيمانية والجمالية والحضارية والتربوية التي يحملها المصباح، أما الآن فلا أشهر لدى شبابنا من مصباح علاء الدين الذي أقصى هذه المصابيح التي أضاءت لنا الدنى .. لينقل أجيالنا من عالم الشهود إلى عالم الخرافة والدجل .. ما رأيكم .. أليست قيمة المصباح نقطة ضوء على طريق نهضة الأمة..
فهل تستوي الظلمات مع النور والظل مع الحرور والحياء والأموات؟!
وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم إطفاء السراج عند النوم فترى من الذي يريد خطف نورنا ليجعل سرجنا بلا إنارة .. وأمتنا بلا حضارة؟!